ثقافة وفن

في العادة والتكرار.. غير المألوف يصبح طبيعياً … د. يوسف جاد الحق في«الجنية» نقل لنا وقائع الحكاية العجيبة عن صديقه كما تمليه الأمانة

| سوسن صيداوي

لعله التطبيع.. أن تألف ما ليس مألوفاً، أن تتعايش مع ما لا يمكن العيش معه في العادة.. ولكن التكرار والإصرار يجعلان غير المألوف مألوفاً.. الطبيعي يغدو غير طبيعي. عبارات كتبها د. يوسف جاد الحق في روايته «الجنية» الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب، والواقعة في كتاب من 249 صفحة من القطع المتوسط. تكشف الرواية لنا صوراً من النفاق البشري الاجتماعي وصوراً من السلوك الإنساني المنحرف، ومن العنوان «الجنية» هناك مبعث قوي للاستغراب وإلى شعور كبير من الخوف والرعب مما يدور في العالم السفلي بكل مكنوناته، وربما جاءت الرواية لتنبّه الكثير من البشر في معرض تصويرها لأحوالنا وممارساتنا العجيبة التي يعرفها- سكان العالم السفلي-عنا، منها أننا نهتم بالمظهر وليس بالجوهر، ومنها أنه علينا الاهتمام بالأحياء وليس بالأشياء، بإنسانية البشر لا زخرفة الحجر، بالحياة وليس بالموت، بالتضحية والإيثار وليس بالأنانية والاستئثار- والكلام للراوي- وكأن الجنية «ميمونة» من خلال بطل الرواية «قصي» مكلّفة مهمة.. برسائل تبغي إيصالها للإنس. وهنا لابد لنا من ذكر ما أشار إليه الكاتب في البداية، إلا أن وقائع هذه الحكاية الغريبة العجيبة، رواها صديقه الأعز، وتأتي أحداثها على أنها واقع حقيقي، وأنه عاش تفاصيلها ودقائقها فعلاً، وأن صديق الكاتب د. جاد الحق طلب منه أن يبقي الرواية بحذافيرها كما وقعت له، فهو نفسه غير راغب لأسباب لم يفضِ بها حتى للقاص في كتابتها بنفسه، أراد أن تكون القصة بلا زيادة ولا نقصان وألا يدخر جهداً في عرضها كما رواها، ويقول د. جاد الحق إنه مكلف بأمانة الناقل فهذه حكاية صديقه، وليس له أي فضل يدّعيه لنفسه سوى العناية قدر المستطاع عما يقتضيه فن القص ومقتضيات السرد وقواعده وأصوله المعتمدة.
وسنسلّط في معرض حديثنا عن بعض مما دار في الرواية من نقاط.

نظرة عما دار

في الرواية كما ذكرنا حوار بين الإنس والجان من خلال بطلي الرواية، قصي وميمونة، قصي موظف المبيعات في شركة تجارية يتطلب عمله منه أن يتجول في عدة مناطق، كما يقوم بتقديم دروس خصوصية في مادة اللغة الأجنبية كي يكفي احتياجاته اليومية المعيشة، وفي يوم وهو جالس في الحديقة وإذ بفتاة جمالها يفتن اللب- وهي البطلة ميمونة ابنة ملك الجان الأزرق- تجلس بقربه، ومع الأيام والزمان المتلاحق تصبح قريبة منه أكثر من المسافة بينهما على المقعد، وتقوم باقتناص العديد من المناسبات كي تكون بجواره ولحمايته. وفي مرة الشاب يبوح بهذه المعرفة لأصدقائه كما وصل به الأمر أن يطلب استشارة شيخ – رجل دين- كي يصل إلى فهم ما يصعب عقله عن استيعابه. أحداث كثيرة تدور بين البطلين وحوارات أكثر تدل على التناقض الذي يعيشه كل من العالمين.

تعابير وصور

في أسلوب الرواي صور وتعابير استعان بها كي يشرح لنا البطل أو البطلة -بحسب الموقف-عواطفهم أو كلامهم… إلخ، منها عندما وصف البطل «قصي» جمال البطلة «ميمونة» (بل أنت ظالمة الحسن وحق السماء)، وفي مكان آخر يصف شعرها المنسدل (تحركه النسمات الوانية، العابثة بالأغصان والثياب الشفيفة على الأجساد الأنثوية العابرة). على حين نجد البطلة تتحدث عن المسافات وعن الأرض كيف حالها في تحركاتهم (الأرض لنا مطوية، والمسافات عندنا ملغاة). ومن المفردات الجميلة التي لا يمكن أن يستهان بوقعها في الجملة وفي إصابتها للمعنى وفي التعبير عنه بطريقة مختلفة عما هو دارج (السمت، المناكفة، عيل صبري، النزر اليسير، لكي نسرّي عنك، رزقنا يأتينا رغدا).

إسقاطات ونقد للواقع

لم تأت الرواية لتبين أو لتثبت وجهة نظر من حيث صحتها أو العكس، الرواية فيها من الواقع الكثير، وفيها الكثير من النقد، وفيها من الطرافة بمكان، ومن القرب بمكان آخر إلى عمق النفوس والأفكار البشرية، من هذه الصور سنأتي على البعض على أن تتابعوا أنتم البقية من خلال قراءتكم للرواية. كنا ذكرنا بأن بطل القصة «قصي» يعمل مندوب مبيعات لإحدى شركات صناعة (العلكة)، حيث يتطرق الرواي د. يوسف جاد الحق في مكان إلى التسويق عبر إعلانات الصحف وعلى الشاشات، ولكنه يشير إلى نظرتنا المستهينة لأهمية لغتنا العربية في استخدام الأسماء الأجنبية للمنتجات بدلاً من الأسماء العربية قائلاً: «ولا يفوت أصحابها تحميل كل منها اسماً أجنبياً، ظنا منهم بأن هذا مدعاة لرواجها، استصغاراً منهم لشأن لغتهم الأم». وعن نظرة الرجل للمرأة يشير في الحوار الذي دار بين البطلة والبطل عندما تقول له: «إن ما يراه الرجل منكم في المرأة ليس إلا شكلها الظاهر، وشكلها الظاهر ذلك ليس هو هي. حقيقتها في داخلها لا يراها رجلها». وأيضاً حتى إن المحللين السياسيين والنفسيين والاجتماعيين الذين يدلون بمداخلاتهم على الفضائيات والإذاعات كان لهم مكان في الرواية، حيث تم التطرّق لهم بلسان البطل «مجيد.. درس مادة علم النفس في الجامعة، والفضائيات تدعوه للتحدث إليها وعبرها، واصفة إياه على الشاشات بالمحلل (السياسي والنفسي والإستراتيجي)، الذي يحيط علماً بكل شيء. لا شك أنها تعرف عنه أكثر مما أعرف…، فهي أقدر على التقييم وإلا لما منحته هذه الصفات والألقاب كلها دفعة واحدة.. بل مكافأة مالية سخية عقب كل لقاء». هذا للمعاناة الحياتية وخاصة عند التعامل مع موظفي الدوائر الحكومية، فمثلاً في أثناء إحدى سفرات البطل نجد شرحاً لما يصادفنا حيث يقول: «أسئلة لا معنى لها ألفناها من ضابط الجوازات فيما يمهر وثيقة السفر. السؤال ذاته الذي يوجه لكل مسافر، عن وجهته مع أنه يعرفها فهي مدونة أمامه. لكنها نزعة التسلط التي يتوق إليها معظم خلق الله، إذ يعمد كل منهم إلى السعي للهيمنة على من هو دونه، أو من يقع في دائرة نفوذه، إلى حد الإملال والإذلال إن أمكن، ولو للحظة عابرة، ينفس فيها عن لا وعيه، ربما من دون أن يدري عن مكبوت خضوعه لأوامر رؤسائه، فيعوضها هو بالتسلط على من هم أدنى منه رتبة أو منزلة». وفي إشارة إلى ما يعانيه مجتمعنا من زيف وما يهتم للمظهر الخارجي بعيداً من البساطة، بل معتمدا التكلف حتى في أبسط الأمور الحياتية يتحدث عن السادة المترفين، وكيف يتناولون طعامهم وشرابهم قائلاً: «السادة المترفون، الذين يصنفون أنفسهم على أنهم علية القوم وأبناء الذوات، للتدليل على ما يحسبونه (رقياً)، إذ من العيب في حق واحدهم أن يأتي على سائر ما في طبق طعامه أو كأس شرابه…. ربما من قبيل التداعي، أن ما يلقى من بقايا طعامهم وشرابهم في حاويات القمامة كفيل بإنقاذ جياع إفريقية وكوريا الشمالية». وعن التقبيل والتحرش والتصرفات غير اللائقة في التعامل مع المرأة يقول: «نحن نقبل الرفيقات في الحزب في الدائرة والسكرتيرات في الأعمال الحرة والمذيعات والفنانات كلما استلطف أحدنا إحداهن.. كنّ يمانعن فيما مضى لكنهن الآن يتقبلن هذا.. وربما يسعين إليه».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن