قضايا وآراء

صراع لأجل تحصين المواقع

| عبد المنعم علي عيسى

يرسم التقرير السنوي الذي أصدره المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن قبل أيام للعام 2018 صورة بانورامية شاملة للصراع الدائر في المنطقة والعالم، ومن الجائز القول إنه جاء حلولاً لكلمات متقاطعة كان العديد من مربعاتها عصياً على الحل.
التقرير طويل لكننا سوف نجتزئ منه ما يهمنا أو ما يساعدنا على وضع آفاق محتملة للأزمة التي تشهدها المنطقة برمتها وفي القلب منها الأزمة السورية، فالمعهد هو أحد أهم مؤسستين عالميتين في تقييم الصراعات الدولية جنباً إلى جنب معهد استوكهلم لأبحاث السلام، وما يصدر عنه يمثل وجهة نظر غربية مهمّة، صحيح أنها ليست رسمية، إلا أنها تعبر عن الرؤى التي تتبناها قوى سياسية واقتصادية يمكن أن يطلق عليها اسم «حكومة الظل» العالمية.
يقول التقرير في أولى استنتاجاته التي يخلص إليها: إن روسيا والصين تتحديان الهيمنة العسكرية للولايات المتحدة، الأمر الذي تبين تداعياته تدريجياً في العديد من مناطق الصراع على امتداد العالم وفي الذروة منها منطقة الشرق الأوسط، وهو ما دفع بدول المنطقة وتحديداً الدول الخليجية التي راحت تبذل جهوداً للتأقلم مع التغييرات الطارئة على موازين القوى العالمية، وهو ما يمكن لحظة منذ بدء الولاية الثانية للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عندما قرر هذا الأخير تخفيف الحضور الأميركي في المنطقة والعديد من دول العالم، الأمر الذي انعكس على سياسات تلك الدول لنرى كلاً من تركيا والسعودية وقطر تعمد إلى شراء منظومة صواريخ «إس 400» الروسية، وفي الآن ذاته اهتمت كل من العراق والإمارات والسعودية ومصر بشراء طائرات من دون طيار من صنع صيني، ناهيك عن محاولات الدول ذاتها في بناء علاقات إستراتيجية مع دول صاعدة مثل الهند والبرازيل، وما يهم هنا هو أن الولايات المتحدة لم تعد متفردة، وفي الأزمة السورية راحت مثلها مثل باقي القوى تدخل في صراعات النفوذ والبحث عن تثقيل دورها.
يرى التقرير أن المخاطر التي يتعرض لها الشرق الأوسط نابعة من ثلاثة مصادر أولها أن غياب التسويات أو المصالحات يهدد من جديد بعودة داعش، وبمعنى آخر يهدد بعودة التطرف والعنف تحت أي مسمى كان، والثاني هو إيران، والثالث هو الميليشيات الشيعية التي تدار بأيد إيرانية، وهذه الرؤية تشير إلى أن الأميركيين والغرب ماضون في مواجهة طهران وهذا قرار لا رجعة فيه، إذا ما وضعنا الموقف الإيراني فيما يخص هذا الشأن المتمثل برفض الانسحاب من الجغرافيا السورية ليس لأن وجودها قد جاء بطلب حكومي سوري فحسب، وإنما لأنها ترى أن حجم التضحيات والتكاليف التي قدمتها تجعل من المستحيل على صانع القرار السياسي اتخاذ قرار بترك كل شيء ثم الانسحاب، وعليه فإن هذه المشادة القصوى تنبئ بأن زمن التسويات لا يزال بعيداً انطلاقاً من أن الروس هم القوة الوحيدة القادرة على تحجيم الدور الإيراني وهم لن يقوموا بتلك المهمة كرمى لعيون الغرب والأميركيين في الوقت الذي تتنامى فيه العديد من الخلافات بين الطرفين الغربي والروسي بدءاً من أوكرانيا ووصولاً إلى الدرع الصاروخية.
يتابع التقرير تقييماته لواقع الدول الكبرى فيرى أن روسيا تتحرك بطريقة أكثر بطئاً من الآخرين تحت ضغط المعوقات الاقتصادية التي تواجه عمليات تطوير قدراتها الدفاعية مثل نقص التمويل مضافاً إليه وجود عيوب في التصنيع الدفاعي، أما أوروبا فعلى الرغم من أنها الأكثر إنفاقاً في مجال القدرات الدفاعية، إلا أن نهجها المستحدث لا يضعها ككتلة واحدة أو كمعسكر غربي في مواجهة التحديات الخارجية، إذ لطالما طفت على السطح تصورات جديدة عن وجود تهديدات قائمة بين الدول الأوروبية نفسها، الأمر الذي يفسر تلك النزعة الانكفائية تجاه الولايات المتحدة التي برزت بقوة في مؤتمر ميونيخ للأمن الذي انطلقت أعماله يوم الخميس الماضي، فقد خرجت فيه دعوات أوروبية غير مسبوقة لبناء قدرات دفاعية ذاتية لمواجهة التحديات الخارجية دون الحاجة إلى مساعدة واشنطن، وأهم ما في الأمر هو أن تلك الدعوات قد خرجت من المحور الفرنسي الألماني الذي يعتبر على مر المراحل العمود الفقري للقارة العجوز، وهي تؤسس لحالة من فقدان الثقة بين الحليفين على ضفة المحيط الأطلسي.
الصين تسعى وفق التقرير، نحو المواكبة ومحاولة اللحاق بالركب جرياً وراء أن تصبح القوة العالمية رقم واحد، وقد استطاعت تحقيق العديد من المكاسب في هذا الاتجاه سواء أكان في تنامي قدراتها الدفاعية أم في محاولات الحفر الناجحة تحت عرش الدولار الذي بات مهدداً بشكل واقعي بالانهيار في أعقاب اعتماد بكين لـ«اليوان» الصيني كعملة عالمية لعقود النفط الآجلة، أو الدفع ذهباً لمشترياتها من النفط والغاز الروسيين أو الإيرانيين.
مما سبق فإن هذه التقييمات الأخيرة تشير إلى أن الغرب قد فقد احتكاره السابق للابتكارات الدفاعية وكذلك فقد احتكاره للتمويل المطلوب لتمكين تلك الاحتكارات، وبهذا الفقدان تصبح الظروف والمناخات مهيأة لقيام عالم متعدد الأقطاب دعت له دول الـ«بريكس» في بيانها التأسيسي في العام 2008، ولذا فإن المرحلة الدولية المقبلة ستكون بعنوان: انزياحات في موازين القوى العالمي، وهذي الأخيرة سوف تدفع بالأغلبية نحو محاولات تحصين مواقعهم الإقليمية أو الدولية أو كليهما معاً، الأمر الذي يظهر في التموضعات الخليجية الجديدة وكذا في تعمق الخلافات الأميركية التركية التي شهدت قبل أيام محطة حاسمة تمثلت في زيارة وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون إلى أنقرة، وهي زيارة حاول العديدون إظهارها على أنها كانت ناجحة على حين إن الوقائع تقول بغير ذلك تماماً فإن يذهب وزير الخارجية التركي للقول في مؤتمر صحفي إلى جانب نظيره الأميركي يوم الجمعة الماضي بأن بلاده اليوم باتت غير مهتمة بالوعود وهي بانتظار قيام الحليف الأميركي بخطوات عملية، فهذا أمر يعتبر في العرف السياسي حالة من فقدان ثقة قصوى، الأمر الذي ترجح فيه احتمالات المواجهة بين أنقرة وواشنطن وعلى مختلف الصعد، وهو ما تنظر إليه موسكو على أنه فرصة سانحة كبيرة لإحداث تحول جذري في التوجهات التركية الخارجية الذي يمكن أن يفضي بها نحو تموضعات جيوسياسية جديدة، وفي هذا السياق لا يبدو أن الرهان الروسي القائل بإمكان مغادرة أنقرة لحلف الناتو رهاناً لا واقعياً، وإن كان بحاجة إلى وقت لازم لإنضاج شروطه.
تبقى حالة التصعيد الإسرائيلية التي نشهدها اليوم وهي لا تختلف كثيراً في الهامش الذي تعتمده أو تناور فيه عن سابقاتها وإن كانت تملك خصوصية فائقة ناجمة عن اعتبار النسيج الإسرائيلي نسيجاً سرطانياً بعكس باقي الأنسجة المحيطة به، إلا أن دخول تل أبيب مؤخراً على نغمة الكيميائي السوري يشير إلى حالة احتياج أميركية للدور الإسرائيلي لمعالجة حالة مستجدة ترى أنها باتت ملحة، وهو ما ظهر بوضوح كبير عبر محاولات تيلرسون إرضاء تل أبيب ومن بيروت أيضاً حيث للكلام هناك معنى آخر ونكهة أخرى، فقد عمد هذا الأخير يوم الخميس الماضي إلى القول إنه لا يرى فارقاً بين جناحي حزب اللـه السياسي والعسكري فكلاهما إرهابي، وأهمية هذا الكلام لا تنبع من المعاني التي يحملها أو في جديد ما حمله، وإنما تنبع من أن تيلرسون نفسه كان قد أطلق قبل يومين من تصريحه سابق الذكر، تصريحاً يقول فيه إنه لا بد من الاعتراف بأن حزب اللـه هو جزء من العملية السياسية في لبنان، وإذا كان هذا هو ما أملاه المكان الذي هو فيه، وهو عمان، فما الذي استجد في بيروت؟
حالة التصعيد أكثر على الجبهة السورية لا تبدو بأنها تملك حظوظاً وافرة واحتمالات الحرب ضعيفة جداً، فتل أبيب اليوم تجد نفسها معنية أكثر بتداعيات ما بعد وقف إطلاق النار، والاعتقاد الإسرائيلي لحظة الإعلان عن وقف إطلاق النار في 14 آب 2006 وصدور القرار 1701 كان يقول إن النجاح في تثبيت حكومة «البكاء» فؤاد السنيورة مع إبعاد حزب اللـه إلى ما وراء نهر الليطاني إنما يمثلان «نصراً» غير مسبوق والأهم هو أنه لم يكن انعكاساً لواقع الميدان وإنما بفعل عوامل أخرى متعددة، إلا أن ما تكشف لاحقاً جاءت نتائجه عكسية إن لم تكن كارثية أكثر، ولا بد أن تل أبيب تدرك جيداً كيف تغيرت معايير الحرب والأمور المستجدة فيها حتى لم يعد سلاح الجو وكأنه ذاك الغول القادر على افتراس كل شيء، كما لم يعد ذلك القوة القادرة على حسم المعارك قبل أن تبدأ، ثم أن العديد من الغايات قد ارتدت على أعقابها ولو بعد زمن طويل والصورة التي وزعتها وسائل الإعلام الإسرائيلية والغربية عشية 10 حزيران 1967 وهي تظهر أحذية عسكرية منغرسة في رمال سيناء لجنود تخلصوا منها تسهيلاً للهرب، كانت تل أبيب تكرر وتعيد تلك الصورة التي كانت تعادل قوام عشر فرق مدرعة كلما دعت الحاجة إلى ذلك، حتى استطاعت أن ترسخ في ذات عربية بدت مهزومة وهي لا ترى حرجاً في ذلك، والأهم هو أنها لم تعد تريد تغيير ذلك الواقع.
تلك الصورة اليوم لم تعد تعني شيئاً بل إن العديدين أحبوا وضعها في أماكن تتيح لهم مشاهدتها كثيراً ليس لأن ما فيها ينعش النفس لكن لأن المزيد من رؤيتها يعني المزيد من العزم والمزيد من الإصرار لمحوها وهو أمر لا يمكن أن يحصل إلا برسم واقع آخر جديد.
وإذا ما كان لنا أن نلخص التقرير سابق الذكر نقول: إن هذا الأخير أراد أن يقول إن القديم الممثل بنظام القطبية الأحادية الأميركية يحتضر، والجديد الممثل بنظام دولي متعدد الأقطاب لا يستطيع أن يولد بعد، وبين هذا وذاك سنكون على موعد مع حروب ومعارك على مختلف الجبهات وهي تهدف إلى تثبيت المواقع وتحصين المرتكزات بانتظار المولود الجديد وما ستحمله شهادة ميلاده من خصائص وعلامات فارقة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن