قضايا وآراء

بيضة القبان

| عبد المنعم علي عيسى

خرج الخلاف الروسي الأميركي فيما يخص الأزمة السورية إلى العلن منذ أن أعلن وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون في السابع عشر من الشهر المنصرم عن نية بلاده إبقاء قواتها في سورية في مرحلة ما بعد داعش، وهو تصريح يؤسس لمرحلة فراق بعد ما يقرب من 30 شهرا من التفويض السياسي والعسكري الأميركي لموسكو، كانت قد بدأت مع عاصفة السوخوي أواخر أيلول 2015، والشاهد هو أن انعكاسات ذلك لم تتأخر لكي تتكاثف في الأفق السوري بل راحت تنجلي صورها جيداً في أعقاب مؤتمر سوتشي الذي أضحى من اليوم الذي انتهى فيه دريئة للتصويب عليها قبل أن تذهب واشنطن في تصعيدها إلى وضع الآليات الكفيلة بنسفها أو تحجيمها وهو ما يمكن أن نراه في «ورقة» باريس، التي أعلن عنها بعد ستة أيام من اجتماع باريس الثلاثيني حول الكيميائي السوري.
ربما يمكن اعتبار الوثيقة التي نشرتها جريدة «الأخبار» اللبنانية يوم 22 الجاري إيضاحاً مهما لبعض النقاط الغامضة في تلك الورقة، حيث تشير الوثيقة الصادرة عن السفارة البريطانية في واشنطن للخطة التي عرضها نائب وزير الخارجية الأميركي ديفيد ساترفيلد في الحادي عشر من كانون الثاني المنصرم والتي تقوم على بنود خمسة هي: تقسيم سورية، تخريب سوتشي، استيعاب تركيا وتجنب التصعيد معها، العودة إلى جنيف، العمل على تسويق الورقة الأميركية المقدمة في مؤتمر فيينا الأخير بشأن الحل السياسي في سورية.
وإذا ما حاولنا أن نرقب مقاربة النظرية للتطبيق، يمكن أن نقول إن واشنطن تعمد إلى فرض التقسيم بقوة الأمر الواقع، وبمعنى آخر عبر خط النار الذي رسمته الطائرات الأميركية عندما قصفت رتلا لقوات رديفة للجيش السوري كان يعمل على عبور نهر الفرات من الغرب إلى الشرق عبر جسور عائمة، وهذا التوجه كان قد اقلق موسكو فأعلن وزير خارجيتها بأن أميركا تسعى إلى تقسيم سورية، كما يمكن تلمس ذلك القلق في الوثيقة التي سربت قبيل انعقاد مؤتمر فالداي التي أعدها خبراء روس مختصون وفيها حذروا من أن نية أميركا في إبقاء قواتها في سورية ونشر وحدات خاصة في مناطق الأكراد سوف يؤدي إلى تقوية العناصر الناشئة للدولة الكردية ما يعرقل استعادة سورية لوحدتها.
وفي هذا السياق فإن عملية «غصن الزيتون» التركية في عفرين لم تدفع نحو تغيير أو تأجيل البرامج، فالتقارير الصادرة عن الشرق السوري تقول إن التدريبات في قاعدة التنف تجري على قدم وساق وفي تصاعد مستمر، أما تخريب سوتشي فهو مسار ملازم للمسار السابق ولا ينفصل عنه، وعلى الرغم من أن سوتشي كان قد أكد عبر النص المعتمد من قبل الأمم المتحدة أن نهره يصب في محيط جنيف لا خارجه، إلا أن طروحات «ورقة» باريس جاءت ناسفة لمخرجات سوتشي، ونظرة سريعة تكشف مدى التناقض ما بين الإثنين، حيث أكدت الأولى على تعديل صلاحيات رئيس الجمهورية وفق دستور عام 2012 ومنح صلاحيات أوسع لرئيس الوزراء، ومن ثم إنشاء برلمان يتكون من مجلسين، الثاني منهما شامل لكل الأقاليم السورية دون أن يكون لمقام الرئاسة صلاحية حل البرلمان، مع التأكيد على وجوب صياغة الدستور قبيل أن يتم التوصل إلى اتفاق سياسي.
ماذا يعني هذا؟ باختصار يعني نسفا كاملا لكل المرجعيات السابقة وفي الذروة منها قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، أما فيما يخص استيعاب تركيا وعدم التصعيد معها فهو كان في صلب زيارة تيلرسون إلى أنقرة منتصف الشهر الجاري، والمؤكد أن تلك الزيارة هي التي أدت إلى نسف جهود التهدئة التي قامت بها موسكو وأثمرت عن زيارة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى طهران في 7 الجاري ومن ثم أعقبها تهدئة واسعة في عفرين، حتى إذا غادر تيلرسون أنقرة اندفعت هذي الأخيرة نحو تصعيد يفوق كل ما سبقه، والراجح هو أن التصعيد سيكون السمة الأبرز لمعركة عفرين في المرحلة القادمة، إذ لطالما باتت هذه المعركة عبر مقاربات نظام أردوغان لها تمثل نقطة توازن لا غنى عنها لاستمرار الصيغة السياسية الحاكمة في تركيا التي تقوم على ثالوث حزب العدالة والتنمية والحركة القومية التركية بالإضافة إلى الجناح الشرقي من تنظيم «أرغنون»، هذه الثلاثية لن يكون بمقدورها الاستمرار في حال تراجعت أنقرة في عفرين أو هزمت فيها، في حين أن العكس أي النجاح في عفرين سوف يؤدي إلى تراكم المكاسب في جعبة أردوغان وهو ما يدركه هذا الأخير جيداً، ولذا نراه يدير ظهره لنداءات «الحليف» الإيراني بخصوص وقف عملية «غصن الزيتون».
لا بد هنا من القول إن موقف موسكو في هذا السياق يرى أن مصلحته تكمن في «انتصار» أردوغان في ما هو ذاهب إليه، فأنقرة قوية ستكون أفضل من أنقرة ضعيفة عندما تستخدم في مواجهة واشنطن، وهو أمر يتناقض تماما مع موقف هذي الأخيرة التي ترى أن هزيمة الأكراد في عفرين سيكون نذيرا بهزيمة مشروعها كله في سورية لكن على الرغم من ذلك نرى أنها عزفت عن تقديم دعم مباشر لوحدات الحماية الكردية وهو أمر يعني أن واشنطن تدرك خصوصية معركة عفرين بالنسبة لأنقرة ولنظامها ولذا فإنها لم تذهب إلى خوض معركة كسر عظم مع أي من الإثنين، والمؤكد أن الأخير يرى أن استمرار الوضع الراهن في عفرين سيكون من شأنه أن يضع حدا لمستقبل أردوغان السياسي وربما يضع هذا الأخير نصب عينية مصير رئيس الوزراء التركي الأسبق عدنان مندريس الذي اعدم في العام 1960.
أن يتم رهن مقدرات الدولة لعقد تقريبا من أجل لا شيء أو من أجل صفر مكاسب، فذاك أمر لا تحتمله التركيبة التركية، بل وربما يضع أيضاً حدا لمستقبل الإسلام السياسي ممثلا هنا بحزب العدالة والتنمية في حكم البلاد، ومن هنا نفهم احتدام الشد ما بين موسكو وواشنطن والمقدر له أن يتنامى تبعا لمجريات الميدان، وما يخص العودة إلى جنيف فهو أمر لا يعترض علية أي طرف من الأطراف وموسكو ما انفكت تعلن أن أستانا وسوتشي هما ركيزتان داعمتان لجنيف وهما ليستا لاغيتين له بأي شكل من الأشكال.
هذا المخطط الأميركي لا يعني أنه سيصبح واقعا، فأميركا ليست قدر المنطقة، ومشاريعها هزمت في أغلبيتها في الماضي، لأنها ببساطة كانت كلها ضد حقائق الجغرافيا ووقائع التاريخ الذي اثبت الخبراء الأميركيون أنهم يعرفونه جيداً، لكنهم يصرون على معاندته مدفوعين بصلف القوة، وهنا لابد من القول إن الدور الذي يلعبه الأكراد في كل ما سبق هو دور محوري ومهم، وما أرادت دمشق أن تقوله عندما دفعت بقواتها الرديفة إلى عفرين بدءا من العشرين من الشهر الجاري فصاعدا هو أنها وضعت كل المواقف والتصريحات السابقة «تحت الوسادة» فالشراكة هي شراكة الدم والمصير التي تقضي بتذويب كل الخلافات مهما بلغت في لحظة مصيرية لم تشهدها المنطقة منذ مطلع القرن السادس عشر الذي شهد وقوعها تحت الاحتلال التركي، والكرة الآن هي في ملعب الأكراد وفي ضوء تموضعهم الجديد في أعقاب التطورات الأخيرة ستتحدد مسائل عده، وبمعنى أدق طبيعة العلاقة التي ستحدثها هذي التطورات مع الأميركيين، ونحن هنا لا نقول إن المطلوب هو قطع هؤلاء لعلاقاتهم مع واشنطن على الرغم من أنها تنتقص من السيادة السورية وهي تتناقض مع أسس العيش المشترك الذي يصر الأكراد عليه، فدمشق تدرك أن الأكراد قد رموا ببيضهم كله في السلة الأميركية ولذا فإن الطلب منهم استعادة ذلك البيض بأي شكل من الأشكال قد لا يكون طلبا واقعيا، لكن يمكن القول إن المطلوب هو إعادة رسم أو تحديد التخوم ما بين المصلحة العليا للأكراد وبين المشاريع والأحلام الأميركية في المنطقة، والمدى الذي يمكن أن يذهب إلية هؤلاء استجابة للطلبات الصادرة عن واشنطن، ولا بد هنا من القول إن الأكراد الآن يمسكون بأوراق هي غاية في الخطورة فيما يخص الشرق السوري، وفي الذروة منها أن سجونهم تحوي آلاف المعتقلين من داعش وهؤلاء اليوم وغدا سيكونون في صلب اهتمامات الأميركيين وربما أداة رئيسية في أيديهم والراجح هو أنه سيتم الزج بإعداد من هؤلاء تدريجيا في التدريبات الجارية في التنف بذريعة تذويب الغالبية الكردية داخل قوات سورية الديمقراطية لنزع صفة الأثنية عنها.
في مطلق الأحوال لن يطول الوقت بنا لنعرف إذا ما كانت الساحة الكردية ستشهد تغييرات حقيقية تتناسب مع المستجدات أم لا؟ فأية تغييرات لابد وان تتمظهر في تحولات سياسية داخلية تكون معبرة عن واقع جديد فرضته سياقات الأحداث الأخيرة، وربما كان في الذروة منها هو نسف القيادات القائمة التي شذت بالأكراد نحو معارك وسياسات لا طائل منها أو أنها كانت ممارسة للسياسة بدلالة مصالح الخارج، أسوة بما حدث في إقليم كردستان العراق عندما تهاوت زعامة مسعود بارزاني لأن الأكراد ببساطة قد انفضوا عنها في أعقاب خطأ الحساب الفادح الذي تمثل في استفتاء أيلول الماضي، كان الاستفتاء محاولة لبث الروح في معاهدة «سيفر» للعام 1920 التي أقرت بقيام دولة كردية، إلا أن المحاولة دفعت أكثر من أي شيء آخر نحو معاهدة «لوزان» للعام 1923 التي أسقطت ذلك الإقرار.
بقي هناك أمر مهم أخير هو أن الأكراد السوريين سوف يرتكبون أيضاً خطأ كبيرا إذا لم يدخلوا في حساباتهم تطورات معركة الغوطة الشرقية ومعركة إدلب ودلالة عودتهما إلى حضن الدولة السورية والتي باتت أمراً حتمياً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن