قضايا وآراء

القرن الواحد والعشرون.. ملامح وافتراقات عن القرن التاسع عشر

| أنس وهيب الكردي

ليس فقط غليان الأفكار والتحولات الصناعية الكبرى في أيامنا هذه، مشابهة لتلك الأيام من سنوات القرن التاسع عشر، بل إن الاتجاه العالمي للسياسة كتعدد القوى وتوسع المناورات بينها، يماثل ما كان شهده العالم قبل نحو قرنين.
شكلت طاقة البخار عالم القرن التاسع عشر، وأدت الثورة الصناعية الممتطية للبخار، في بريطانيا، الولايات الألمانية، وفرنسا إلى الأفكار الأكثر راديكالية التي بلورها ماركس وأنجلز في بيان «يا عمال العالم اتحدوا»، وتشكل النظام المالي الدولي تحت قيادة لندن وتربع الجينه الإسترليني على عرش التبادل التجاري العالمي، وبدأت بريطانيا تقسيماً عالمياً للإنتاج جعل سلاسله متوزعة على طول الكرة الأرضية وعرضها.
كان القرن التاسع عشر المسرح الكبير الذي تطورت على خشبته فنون الدبلوماسية العالمية وبرزت عليه الحقائق الجيوسياسية الأولى، وكان ميزان القوى هو المفهوم المركزي أوروبياً، وكانت الدول الأوروبية تتوسع عالمياً بوتائر متسارعة.
خلال هذا القرن تكاملت عملية تقاسم لإفريقيا، وتشكلت العديد من موازين القوى خلال مئة العام الذهبية، وفي النصف الأول من ذاك القرن شكلت الممالك الشرقية: النمسا، بروسيا وروسيا ميزاناً للقوى هدف إلى ضبط فرنسا والحركات القومية والثورية والمحافظة على بولندا مقسمة، وبينما كانت السنوات تنصرم مبشرة بميلاد القرن العشرين، تشكل ميزان قوى للرد على توحيد ألمانيا، توحدت فيه فرنسا وبريطانيا وروسيا.
هيمنت معالجة تداعيات انحلال الإمبراطورية العثمانية «رجل أوروبا المريض» والتي ستسمى بـ«المسألة الشرقية»، على كواليس وتفاعلات الدبلوماسية العالمية، وكان هدف الدول الأوروبية الكبرى هو منع غيرها من الحصول على حصة أكبر من حصتها في تركة الدولة العثمانية المحتضرة، وبما أن روسيا كانت أكثر دولة ستستفيد من وفاة هذا المريض، فقد سعت بريطانيا، فرنسا والنمسا ولاحقاً إيطاليا، لكبح جماحها حفاظاً على توزان القوى في شرق البحر الأبيض المتوسط.
حصل أن اتفقت روسيا وبريطانيا العظمى ثلاث مرات حول «المسألة الشرقية»، الأولى إبان الحروب المصرية العثمانية التي هدد فيها جيش والي مصر محمد علي باشا، مدعوماً بالفرنسيين، بالقضاء على السلطنة العثمانية، والثانية، رداً على الحملة الفرنسية في لبنان وسورية عام 1861، والثالثة، خلال مؤتمر برلين عام 1878 الذي تمخض عن ولادة دولة بلغاريا بعد انتصار الروس على العثمانيين في حرب البلقان.
بعيداً عن أوروبا، سعت لندن لمنع الروس من مد نفوذهم إلى الخليج العربي والهند، وبين الجانبين دارت، وعبر سنوات ذلك القرن، فصول «اللعبة الكبرى» في مجاهل آسيا الوسطى، وشهد القرن التاسع عشر على امتصاص الجيوش القيصرية للدول الضعيفة على طول الحدود الشاسعة لروسيا، وهو ما سعت بريطانيا إلى عرقلته، حتى نجحت في جعل أفغانستان منطقة عازلة بينها وبين الروس، وضمت سانت بطرسبورغ في هذا القرن أكثر من أربعة ملايين كيلو مترات مربعة في آسيا الوسطى وواصلت سياسة إضعاف الدولتين العثمانية والفارسية، من دون القضاء عليهما.
آسيوياً، ضعفت الصين واشتعل السباق على توازع النفوذ الأجنبي على أراضيها، بعد أن حسمت بريطانيا العظمى الوضع في الهند لمصلحتها وضمتها إلى تاجها الإمبراطوري، ووحدها اليابان نجت تحت قيادة إمبراطورها ميجي من براثن المطامع الأوروبية التي لا ترحم.
استغلت الولايات المتحدة انشغال الدول الأوروبية بصراعاتها من أجل فرض نفسها على النصف الغربي من العالم، ولم ينته القرن التاسع عشر إلا وقد كانت قد استكملت هيمنتها هناك.
هكذا، مضت سنوات القرن التاسع عشر: سيادة بريطانية عالمية جيوسياسية ومالية، تحداها التوسع الروسي والصعود الألماني والياباني والأميركي، وذلك في مقابل تراجع فرنسي، ضعف صيني، وغياب هندي، واحتضار فارسي وعثماني.
عالم اليوم فيه أوجه شبه من عالم القرن التاسع عشر، إذ تواجه السيادة الأميركية العالمية الجيوسياسية والمالية تحدي أقطاب صاعدين، كما نشهد طفرة تقنية متسارعة وسط غليان اجتماعي وسياسي عظيمين وبداية تبلور تيارات رديكالية قوية، وأيضاً، تبدو روسيا في ذات موقعها للقرن التاسع عشر، فقوتها الجبارة تنمو وسط جوار أضعف منها بكثير، وكذلك ألمانيا عادت أقوى دولة في أوروبا.
لكن القسمات الأخرى للقرن الواحد والعشرين مختلفة عما سبقها، فميزان القوى الرئيسي لم يعد بين الدول الأوروبية كما كان سابقاً، حيث تحولت أوروبا إلى تابع للولايات المتحدة وقد تعود ساحة صراع كما كانت إبان القرن العشرين، وبالمثل، تبدلت مواقع الدول على سلم القوّة العالمي؛ فالصين باتت دولة صاعدة بعد أن كانت ضعيفة للغاية، وكذلك الحال للهند، أما فرنسا وبريطانيا فلم تعدا على خريطة الدول الكبرى، بينما تتمتع إيران وتركيا بمكانة بارزة في قلب الشرق الأوسط.
وبينما تحددت مسارح عالمية للصراع في القرن التاسع عشر بقواعد لعبة مضبوطة، لا تزال القوى الكبرى في عالمنا تتلمس طريقها إلى وضع مثل هذه القواعد.
إلى الآن، لم ينشأ شيء مماثل للوفاق الأوروبي ضد الثورة، والذي أرساه مستشار النمسا كلمينس فون مترينخ بعد الحروب النابليونية، كما لم يحصل أي تفاهم دولي على سبل إدارة الصراعات الشرق الأوسط، على شاكلة تواطؤ الدول الكبرى التي اشتركت في كواليس «المسألة الشرقية»، على منع الدولة العثمانية من الصعود، أو الاندثار أمام ضغوط إحدى تلك الدول.
تشكلت تلك القواعد التي حكمت القرن التاسع عشر، بشكل عفوي، نتيجةً لدينامكية الفعل ورد الفعل بين الدول الكبرى الساعية إلى تحقيق مصالحها الدولية، على سبيل المثال، ولدت قواعد دبلوماسية اللورد هنري بالمرستون، التي حركت بمقتضاها بريطانيا العظمي أساطيلها إلى مضائق البوسفور والدردنيل مع كل تقدم للجيش الروسي في البلقان على حساب الدولة العثمانية، وإلى الآن لم تتبلور أي قواعد لإدارة الصراع الدولي المقبل على آسيا الوسطى، وخصوصاً في ضوء صعود الصين، والهند وألمانيا، فضلاً عن الوجود القديم لروسيا والولايات المتحدة، وذلك بينما تتشكل قواعد لإدارة الصراع في بحر الصين الجنوبي بين الصين من جهة والولايات المتحدة وحليفاتها من جهة أخرى، وتعيش منطقة الشرق الأوسط فوضى لم يظهر منها إلى الآن، سواء ميزان قوى يعتد به، أم قواعد تنظم الصراعات المنفلتة، هذا ما يجعل المنطقة شديدة الشبه بأوروبا الوسطى زمن «حرب الثلاثين عاماً» في القرن السابع عشر.
يفترق القرن التاسع عشر عن قرننا الحالي بملامح عديدة، لكنهما يتشابهان في كثير من الملامح واحد منها يبقى حاسماً بشكل خاص، هو كثرة الصراعات العالمية وتكاثرها، قبل أن تتشكل قواعد جديدة لإدارة اللعبات الإستراتيجية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن