ثقافة وفن

المدى المعرفي والتذوقي للجمال يأتي من مبادئ الفن والتأثير في السلوك

| كرم النظامي

يبحث علم الجمال (الاستطيقيا) في التعبير الجميل عما يدركه الإنسان ويهدف إلى تهذيب النفس البشرية والارتقاء بها عبر كل طرق التعبير كالفن التشكيلي أو الموسيقى أو المسرح أو الأدب وغيرها من الفنون ، وهو علم مجتزأ من الفلسفة التي قدمت النظريات والرؤى الأساسية للجمال ويتصل بالعديد من العلوم الإنسانية كعلم النفس والاجتماع والنقد الفني والأدبي ، ولا يمكن أن تستقيم تربية الإنسان تربية حضارية بمعزل عن هذا العلم المهم..

فنحن حين نبني إنساناً ضليعاً بالعلوم والتكنولوجيا لكنه يجهل الجماليات من فنون وآداب ، نكون كمن صنع كماناً من دون أوتار، لأن بناء الأرواح لا يقل أهمية عن بناء العقول، ومن الثابت في علم التربية والتعليم أنه من الخطأ أن نعزل الفن عن باقي العلوم الأساسية وننظر إليه كعلم ثانوي ولا نأخذ بالاعتبار المدى المعرفي والتذوقي للجمال الذي يناله الفرد من خلال دراسة مبادئ الفن على الأقل وأهمية تأثيره على سلوكه.. فكثير من الناس متعددي العلوم أو الثقافات يمرون مثلاً من جانب صالة عرض فني (كاليري) أو دار أوبرا أو مسرح أو متحف ولا يدفعهم الفضول للدخول والتعرف إلى ما يجري أو يعرض في الداخل ، والسبب هو ضعف إن لم يكن انعدام الثقافة الجمالية، ما يشكل فجوة نفسية تتوق إليها النفس البشرية بطبيعتها الفطرية وحالة اغتراب مابين نزوع الروح ومادية العقل وجفاف روحي يؤثر في السلوك الإنساني برمته.. ومن هنا تأتي ضرورة المزاوجة مابين القوى الإدراكية والدوافع الحسية والوجدانية ، إضافةً لتحقيق التوازن مابين القيم العلمية والتقنية وبين القيم الجمالية والروحية والخُلقية و أهمية التكامل بينهما بما يضمن تحقيق تكوين الإنسان الجميل خُلقاً وذوقاً وفضيلةً وارتقاءً في الإحساس بمجمل الموجودات وتهذيب السلوك وسمو الأخلاق والذوق.
إن الوعي الجمالي يحتاج إلى تربية وتنشئة اجتماعية خاصة ، فنحن لدينا القدرة على الانبهار ببعض المناظر الطبيعية مثل قوس قزح أو حمرة الشفق ، لكنها تتحول إلى قيم جمالية عند صياغتها بأعمال مبدعة كلوحة فنية أو منحوتة أو قصيدة أو سيمفونية.. وكما قال الفيلسوف شارل لالو « ليس للطبيعة قيمة جمالية إلا عندما ننظر إليها من خلال فن من الفنون».. ومن هنا ، فإن النفس البشرية لا ترقى بأحاسيسها إلا من خلال البحث عن مواطن الجمال وتذوقه لأن الجمال يهذب السلوك البشري ويرتقي به.. فمن ارتقى جمالياً ونشأ على ذلك وترعرع، لا يمكن إلا أن يكون صادقاً ومهذباً في تعامله مع المجتمع، ولا يمكن له أن يفكر حتى بمجرد قطف وردة من حديقة أو اصطياد عصفور من على شجرة أو رمي النفايات خارج الحاويات مثلاً، فكيف بإشعال الحروب وتخريب الطبيعة وقتل البشر وتدمير الحضارات والمجتمعات كما هو الحال فيما نعيشه من مآس من أهم أسبابها انعدام الثقافة الجمالية بالمطلق والتي قوامها الحق والخير إلى جانب العلم والوعي والسمو الخُلقي.. فالإنسان بطبعه الغريزي المتوارث من أحقاب الغابة إذا لم تغسل روحه من أدران التوحش بالموسيقى والألوان والشعر وضوء الشمس ولو كان متعلماً، سيبقى كذئب في غابة وحالة تدميرية لكل أثر حضاري من حوله، لأن ثقافته هي ثقافة القتل وليس العقل، وربما هذا هو جوهر الصراع الأزلي مابين الجمال والقباحة والذي تحسمه بشدة التربية الجمالية بالتوازي مع التربية الوطنية التي تدفع بالإنسان تلقائياً إلى حب الحياة والوطن والتعايش مع المختَلِف والحفاظ على الثروات التراثية والآثار والأوابد من العبث والتخريب..
إن من خصائص التربية الجمالية في تكوين الإنسان ، بناء الإنسان الأفضل وخاصة من الناحية النفسية والسلوكية وتحسينها والارتقاء بها ، وهذا ليس ترفاً بل ضرورة وجودية وحاجة مستديمة.. وحسب تصورات برغسون ورينيه وهما من فلاسفة علم الجمال، فإن الحالة الشعورية لا تخرج عن كونها حالة فنية وقيمة أخلاقية لأن الجمال والأخلاق متفاعلان بقوة ، وإذا كانت الأخلاق هي من توجه أفعال الإنسان فإن معطيات الجمال تجعله واعياً ومبدعاً ومندفعاً نحو الأفضل دوماً.
الثقافة الجمالية تصنع الإنسان المعاصر البناء الخلاق.. فالذي تربى على الجمال وتثقف بالروائع الفنية ، يبقى اهتمامه بالجوهر ولا يهتم بالشكل الذي يثير الغرائز والرغبات حين يكون مثلاً أمام مشهد لوحة عارية أو تمثال عار كما في منحوتات رودان، فبدلاً من تمزيق أو تحطيم هذا المجسد، يتماهى معه ويُثمن قيمته ويحافظ عليه، وقد شهدنا مجازر تحطيم وتخريب المتطرفين والدواعش للآثار الفنية في سوريا والعراق ، فالتطرف والسلوك الإلغائي من أسبابه انعدام الثقافة الجمالية بالمطلق.. هذه الثقافة التي ترفع من الذائقة والوعي ورقي السلوك الاجتماعي.
إن تكوين الإنسان جمالياً يضمن لتراث الفكر الإنساني والإبداعي الاستمرار ويحفز لكل إبداع جديد ويبني الأمم المتحضرة.. وليس كالفن الذي هو معطى جمالي، مَن يعطي الصورة الحية لمستوى التطور الحضاري للشعوب عبر عصورها المختلفة، ولهذا فإن الفن مرتبط بالإنسان وبالحياة لأن الحياة نبع الفن ومادته، والفن صورة الحياة وتاريخها واثبات وجودها وهو من يخلق الوعي من الجهل والقمع ويفتح آفاق فكر الإنسان ومخيلته للبحث والتجديد ومواكبة الحضارات الأخرى والتماهي معها بتشاركية إبداعية لا يضمن استمراريتها وارتقاءها سوى التربية الجمالية ولهذا فالإنسان تكوين جمالي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن