ثقافة وفن

أحدث رسالة في هذا الكتاب يناهز عمرها الثمانين عاماً … مراسلات الشهبندر تثبت أن التآمر لم يتوقف على سورية وشعبها منذ القدم

| سارة سلامة

الطبيب والسياسيّ والكاتب السوريّ عبد الرحمن الشهبندر العقل المخطط للثورة السورية الكبرى، الذي ألف حزباً سياسياً سماه حزب الشعب وتولى رئاسته وعمل في تنظيم العمل السياسي، ودعا إلى الوحدة العربية مطالباً بإلغاء الانتداب، وإقامة جمهورية سورية في نطاق الاتحاد مع جميع البلدان العربية المستقلة.
وفي بحث أجراه الدكتور سامي مروان مبيض سلط فيه الضوء على هذه الشخصية حيث صدر عن دار البشائر كتاب بعنوان (الرسائل المفقودة بين الدكتور عبد الرحمن الشهبندر ودولة الرئيس حسن الحكيم في الفترة بين 1926-1937)، التي جمعها وقدمها وعلق عليها الدكتور مبيض، والكتاب من القطع المتوسط وجاء في 176 صفحة، وفي مقدمته يذكر مبيض إهداء إلى: «معالي الوزير والسفير عبد الله الخاني، المعلم والرمز والشاهد الأمين على تاريخ سورية المعاصر».

إرث له أهميته التاريخية
وفي البداية شمل الكتاب على مقدمتين الأولى لعائلة الرئيس حسن الحكيم، وجاءت بقلم الحفيد الدكتور وسيم هاني حسن الحكيم، الذي قال: «لقد قسّم جدي الرئيس حسن الحكيم في أواخر سني حياته المديدة (96عاماً) مكتبته العامرة إلى خمسة أقسام: الأول أهداه إلى مكتبة جمعية المقاصد الخيرية في بيروت التابعة لمؤسسها صديقه الراحل الرئيس صائب سلام، والثاني أهداه إلى دار الوثائق التاريخية بدمشق، والثالث إلى مكتبة المتحف الوطني بدمشق، والرابع إلى مكتبة جامعة دمشق.
أما القسم الخامس الذي يخص سورية والقضية السورية في المرحلتين العثمانية والفرنسية فقد أبقاه لنفسه، وهذا الجزء وصل إليّ إرثاً وها أنا أحافظ عليه بغيرة واضحة لعلمي بندرته وبأهميته التاريخية».
لقد بدأت اهتمامي بقراءة ما احتوته تلك المكتبة من كنوز بعد رجوعي من فرنسا عام 1989 وبدأت بمؤلفات جدي ومنها انتقلت إلى معظم ما تبقى من الكتب التي ناهزت الـ100 كتاب وملف، ولفت انتباهي ملف يحوي مجموعة من الرسائل التي أرسلها الدكتور عبد الرحمن الشهبندر من منفاه بالقاهرة إلى جدي المنفيّ آنذاك في القدس، وموضوع هذه المراسلات يتعلق بالثورة الوطنية الكبرى عام 1925 والحياة السياسية في سورية بين 1927-1937.

طبيب ماهر وخطيب
وفي مقدمة الدكتور سامي مبيض يقول فيها: «ولد صاحب هذه الأوراق الدكتور عبد الرحمن الشهبندر في دمشق لعائلة متواضعة متوسطة الحال عام 1879. توفي والده وهو طفل ودرس في مدارس دمشق العثمانية قبل الالتحاق بكلية الطب في الجامعة الأمريكية أواخر القرن التاسع عشر، كان قراراً غريباً للطبقة الوسطى بدمشق، لأن دراسة الطب في بيروت كانت مكلفة للغاية وحكراً على عائلات الأغنياء والمثقفين، ولم تكن أسرة الشهبندر كذلك، تخرّج بامتياز ودرجة شرف وعمل طبيباً في مشفى الجامعة الشهير ثم عاد إلى مدينته عام 1908 لفتح عيادة طبية والالتحاق بالهيئة التدريسية في معهد الطب العثماني بدمشق.
نشأة الشهبندر

ذاع صيته بين أوساط الدمشقيين، طبيباً ماهراً وخطيباً مفوهاً، وتزوج من سيدة ثرية من عائلة العظم العريقة ليصبح الطبيب الخاص لجمال باشا، حاكم ولاية الشام في الحرب العالمية الأولى وأحد أقوى رجالات الدولة العثمانية في حينه.
انتسب الشهبندر سراً في هذه الفترة من حياته إلى الجمعية العربية الفتاة، المؤسسة من مجموعة من الطلاب العرب في باريس عام 1911 والرامية إلى إنهاء أربعة قرون من الحكم العثماني التركي لبلاد الشام.
خلال سنوات الحكم الفيصلي «1918-1920»، كلف الدكتور الشهبندر بإعادة فتح معهد الطب العثماني بدمشق المغلق بسبب ظروف الحرب الكبرى، وبتعريب مناهجه وكتبه الأكاديمية من اللغة التركية إلى اللغة العربية بعد خروج العثمانيين، وبإعادة تسميته «معهد الطب العربي»، ليصبح نواة الجامعة السورية عام 1923، درّس الطب في دمشق فترة وجيزة قبل أن تسرقه السياسة كلياً عن مهنة التعليم، ففي العام نفسه أصبح الشهبندر نائباً عن دمشق في المؤتمر السوري الأول (أي البرلمان) وبعد أشهر قليلة عين وزيراً للخارجية في حكومة الرئيس هاشم الأتاسي، ليتزعم المفاوضات مع الفرنسيين قبل معركة ميسلون الشهيرة في صيف عام 1920.
في صيف عام 1925، أسس الدكتور الشهبندر أول حزب سياسي في سورية، يدعى حزب الشعب، قبل سنوات طويلة من ظهور حزب يحمل الاسم نفسه في مدينة حلب شمال البلاد في عهد الاستقلال، طالب الحزب الجديد بنظام برلماني ملكي لسورية تحت العرش الهاشمي، يوحد بلاد الشام ولا يعترف بحدود سايكس بيكو، علماني الهوية، اشتراكي الهوى، هاشمي التمويل والميول.

التحاقه بالثورة
وفي صيف عام 1925 التحق الشهبندر بسلطان باشا الأطرش وأقسم اليمين للثورة السورية الكبرى المندلعة من جبل العرب ضد الفرنسيين، وأغلق عيادته الطبية في دمشق وتوجه برفقة زوجته سارة مؤيد العظم إلى قرى الجبل ليحملوا السلاح إلى جانب سلطان باشا، ردّ الفرنسيون بالحكم عليه بالإعدام غيابياً، للمرة الثالثة في حياته، بتهمة الخيانة العظمى، وبمصادرة أملاكه وأملاك أسرة زوجته.
وفي تشرين الأول 1925 وصلت نيران الثورة من جنوب سورية إلى مدينة دمشق، بفضل الشهبندر ورجاله، وأدت إلى عقاب رهيب لأهالي المدينة، حرقت خلاله أحياء بأكملها، وقتلت الآلاف من الأبرياء، ودمرت قصور ومتاجر أسواق البزورية والميدان والحميدية، وأضرمت النار في قصر العظم الأثري.
تحمل الشهبندر أوزار فشل الثورة لكنه بقي مؤمناً بها وعاش في منفاه المصري من عام 1926 حتى عودته إلى سورية بموجب عفو أصدرته الكتلة الوطنية بعد وصولها إلى الحكم عام 1936.
وعاد الشهبندر إلى دمشق بموجب اتفاق وقعته الكتلة الوطنية مع الحكومة الفرنسية يقضي باستقلال سورية التدريجي على مدى خمسة وعشرين عاماً، وبعد غياب عن المسرح السياسي السوري عاد الشهبندر من بوابة الاتفاقية، معارضاً شديداً لها ولحكم الرئيس مردم بك، وضعه الأخير تحت الإقامة الجبرية في ريف دمشق بين 1937- 1939، ومنع الشهبندر من فتح مكاتب حزب الشعب المغلقة منذ عام 1925 ولم تعطه الحكومة رخصة إصدار مطبوعة وعلّقت الصحف الموالية له، واعتقل أيضاً عدد كبير من مؤيديه بعد محاولة اغتيال جميل مردم بك أمام السراي الحكومي.

اغتيال الشهبندر
النصر المعنوي والسياسي لم يدم طويلاً، فقد سقط الشهبندر قتيلاً في عيادته في تموز عام 1940، على يد عصابة من الفتيان قيل يومها إنها تعمل لمصلحة الكتلة الوطنية والرئيس مردم بك.
واعترفوا لاحقاً أن لا علاقة للكتلة بهم وأنهم نفذوا جريمتهم بتحريض من المخابرات الفرنسية وألصقوا التهمة برجالات الكتلة للتخلص من مردم بك والشهبندر معاً، وبأن دافع القتل كان بسبب مواقف الشهبندر العلمانية المناهضة لكل الأديان السماوية، معتبرين الرجل خطراً على الإسلام والأمة الإسلامية.
الرئيس الحكيم

أما متلقي كل هذه الرسائل فهو دولة الرئيس حسن بك الحكيم، السياسي العريق الذي شكل الحكومة السورية مرتين بعد رحيل الشهبندر، الأولى عام 1941 والثانية في عهد الاستقلال سنة 1951، كان الحكيم نبراساً للحق والعدل، يتمتع بسمعة عطرة بين الوطنيين كافة حتى بين خصومه السياسيين من رجالات الكتلة الوطنية.
ولد الرئيس الحكيم في حيّ الميدان الدمشقي شرق سور المدينة عام 1886، لأسرة كبيرة ومحافظة، درس الإدارة العامة في اسطنبول ثم عاد إلى دمشق والتحق بالعمل الحكومي، ليصبح مديراً للشعبة الثانية لمكتب اللوازم العسكرية العثماني نهاية الحرب العالمية الأولى.
عند انهيار الدولة العثمانية عام 1918عمل حسن الحكيم جاهداً على حماية صناديق الذهب الموجودة في خزينة الدولة في ظل انهيار كامل للأمن والشرطة، وقدمها عداً ونقداً لحاكم سورية الجديد الأمير فيصل بن الحسين نواةً لخزينة الدولة السورية الوليدة، أعجب فيصل بهذا النبل وبولاء الحكيم لثورة والده فعينه أولاً أميناً ومفتشاً على مالية العاصمة ثم مديراً للبرق والبريد، ومسؤولاً عن جميع المراسلات الرسمية للحكومة العربية، في آذار 1920 أشرف الحكيم على مراسم تتويج الأمير فيصل ملكاً على البلاد، ووجه مراسلات رسمية إلى الدول الكبرى ولأعيان سورية ولبنان ومصر وفلسطين ممهورة بختم (فيصل الأول، ملك سورية).

كنز ينتظر أن يفتح
في شتاء عام 2014 قمت بزيارة لمعالي الأستاذ عبد الله الخاني، الأمين العام الأسبق لرئاسة الجمهورية السورية، وحدثني عن «كنز» ينتظر أن يفتح منذ أكثر من ثلاثين سنة في منزل الدكتور وسيم الحكيم، عميد كلية الزراعة في جامعة دمشق الأسبق وحفيد الرئيس حسن الحكيم.
بالفعل، جمعنا «عبد الله بك» في داره العريقة وولدت صداقة سريعة جداً بيننا، قوامها العيش المشترك في زمن الحرب ومحبة مشتركة لتاريخ دمشق المعاصر، كجده الكبير كان الدكتور الحكيم مؤمناً بوطنه وبقوميته، رفض أن يغادر البلاد على الرغم من الظروف الصعبة والعروض المتتالية في كبرى جامعات العالم.
وذات يوم أدخلني إلى مكتبة جده ووضعها تحت تصرفي، واليوم بعد مرور ثلاثة أعوام على هذه اللفتة الكريمة قررت جمع بعض الأوراق والمراسلات في هذا الكتاب، ليوفى الرجلان الكبيران عبد الرحمن الشهبندر وحسن الحكيم حقهما، وليتعلم الآخرون من الدكتور وسيم الحكيم ضرورة الحفاظ على كل ما يترك في ميراث عائلاتهم، ورقياً كان أم معنوياً، لأن في كل مقصوص وكل رسالة وكل قطرة حبر جزءاً صغيراً ومهماً من تاريخ هذا البلد، لا يجمع بشكل كامل إلا بتعاون جميع أبنائه.
ويقول مبيض أخيراً: «إنه للوهلة الأولى قد يبدو هذا الكتاب غريباً بعض الشيء يقص قصة زعيمين غابا عن عالمنا منذ زمن بعيد جداً، ولا علاقة لهما ولهمومهما وأفكارهما بما يحدث في سورية اليوم، فأحدث رسالة في هذا الكتاب تعود إلى عام 1937، أي عمرها يناهز الثمانين عاماً، ولكن في الحقيقة إن جميع القصص الواردة في هذه المراسلات معاصرة جداً بمعناها ومضمونها، تاريخية فقط في زمنها وشخصياتها، تثبت بالدليل القاطع أن التآمر لم يتوقف على سورية وشعبها منذ الأزل وها نحن اليوم نعيش ما تحدث عنه الشهبندر لحسن الحكيم منذ زمن بعيد قريب.

لمحة على بعض هذه الرسائل
الرسالة السادسة- القاهرة، 15 نيسان 1933 الرسالة محملة بعدة أمور، أولها توصية الدكتور الشهبندر بصديق له يعمل تاجراً في فلسطين، ولديه مشكلات مصرفية، لأن حسن الحكيم عمل مديراً للبنك العربي المؤسس في القدس، يتطرق الشهبندر إلى موضوع الكتلة الوطنية المعادية له، وإلى انقلاب أحد أعضائها باتجاهه، وهو نائب دمشق زكي الخطيب، ثم يتحدث عن آخر مقالاته في مجلة الهلال المصرية، وعن أحوال زوجته السيدة سارة مؤيد العظم، والدة أكبر أولاده فيصل الشهبندر المسمّى على اسم ملك سورية الراحل فيصل الأول.
(أخي الحبيب حسن بك لا عدمتك: الآن تلفن لي صديقي وجاري أفندي رجب التاجر المعروف، يطلب مني أن أسأل له رجلاً في يافا اسمه الحاج محمد مصطفى الكلش، وحسن أفندي يعامله منذ مدة ويرسل له البيض ويحوّل عليه بالقيمة، وفي الإرسالية الأخيرة كان التحويل من بنك مصر بوساطتكم، لكن التاجر اليافي يشكو من هذه المعاملة ويطلب أن يتسلم البضاعة حالاً حتى لا يفسد، وبعدها يقدم قيمتها، لكن صديقنا يرغب في أن يستعلم عنه، وعن معاملته، ومركزه المالي، فهل يمكنني أن آخذ هذه المعلومات الوثيقة منك؟ وهي ستبقى سراً من الأسرار بيننا طبعاً، وأحب أن أخدم صديقنا حسن أفندي بهذه المعلومات منك).
الرسالة الخامسة عشرة- القاهرة، 9 أيلول 1937: رسالة توصية من الشهبندر للدكتور أسعد طلس الكاتب والأديب الذي اشتهر عام 1949 بصفة العقل المدبر لانقلاب اللواء سامي الحناوي على الزعيم حسني الزعيم.
أخي العزيز حسن بك الحكيم لا عدمتك: تحية وسلاماً وبعد، فلا بد أن رسالتي بتاريخ أمس وصلت إليك، وقرأت ما فيها من المطالعة على البرقية التي ظهرت في جريدة الأهرام، والموجب لتسطير هذه الرسالة، أن لي ولداً في حلب لا يختلف عن سائر أولادي هنا، هو الأستاذ أسعد طلس، وأنّ له ولأسرته قضية في الأوقاف، أحدثت لهم مشقة وهددتهم في سعادتهم، ويهمني كثيراً إنصاف هذا الشاب الناهض المملوء إيماناً وإخلاصاً، والأخذ بناصره، ليقوم بما أؤمله فيه من الخدمات الوطنية الصادقة. وأقول في الختام، أقدم شكري سلفاً، لأن هذا الشاب هو في الواقع من أبنائكم، ودمت لأخيك.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن