«لا بد من عقاب» لكن على ماذا؟
| عبد المنعم علي عيسى
اختلال فاقع في التوازنات شهدته الجغرافيا السورية على امتداد يومي السبت والأحد الماضيين وهو الذي يفسر كل هذا السعار المحموم الذي تتزعمه الولايات المتحدة مع بروز لدور فرنسي ما انفكت باريس تسعى إلى لعبه في سورية منذ شهرين وهي الآن تمارس عملية الإحماء قبل الدخول إلى الحلبة كما يبدو، لكن الجديد في الأمر هو تلك اللهجة «الأميركية» التي تحدث بها الاتحاد الأوروبي الذي قال: إن الدلائل تشير إلى استخدام «النظام» السوري للسلاح الكيميائي، ودعا إلى رد فعل دولي مباشر في خرق غير معتاد للسياسات الأوروبية المعتمدة في المنطقة، الأمر الذي يمكن تفسيره عبر ربطه بالتصعيد الأميركي والغربي الحاصل ضد روسيا وهو يهدف إلى «شيطنتها» في نظر الشارع الغربي وقواه وأحزابه الفاعلة، حيث القيام بالفعل هنا يؤمن غياباً تاماً لأي واقعية سياسية لازمة لنجاح أي حوار روسي غربي يمكن أن تشهده المراحل اللاحقة، تماماً كما جرى العمل عليه فيما يخص الطريقة التي تعاطى بها الغرب مع الدولة والنظام السوريين.
لم يكن متوقعاً أن تسقط الغوطة سريعاً ونجاح الجيش العربي السوري في بسط سيطرته عليها في قالباً بذلك خريطة السيطرة رأساً على عقب، ومهمشاً الدور الأميركي في سورية من خلال حالة التلاشي التي أضحت قدر المعارضة السورية الوحيد، هذا النجاح فرض وجوب قيام «الممرض» بتضميد الجراح التي أصيبت بها أنظمة الغرب بالدرجة الأولى، والمعارضة السورية بالدرجة الثانية، وفي هذا السياق كان تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي قال فيه: إن هذا الفعل لن يمر من دون عقاب، لكن السؤال الأهم هو على ماذا؟ والجواب على ذلك بسيط فما قامت به دمشق هو أنها استعادت فضاءاتها، حيث الفعل هنا يعني بالضرورة انغلاق فضاءات المشروعات والمخططات الغربية والأميركية على حد سواء.
عقد مجلس الأمن القومي الأميركي مساء الأحد الماضي بتوقيت دمشق اجتماعه الذي قيل إنه كان مخصصاً لدراسة الخيارات تجاه «كيميائي دوما» واتخاذ القرار أو السلوك الأميركي الذي ستعتمده واشنطن تجاه دمشق، وبحسب تسريبات الإعلام الأميركي فقد كان هناك شبه إجماع على وجوب توجيه ضربة عسكرية للجيش السوري إلا أن الخلاف كان ينصب حول حجم تلك الضربة، ففي الوقت الذي طالب فيه البعض بأن تكون تلك الضربة شاملة وهي تستهدف القوات الجوية السورية بأكملها، قال البعض الآخر إن المصلحة الأميركية في ظل التعقيدات التي وصلت إليها العلاقة مع موسكو في سورية تقضي باستهداف مطار الضمير العسكري فحسب وهو المطار الذي يدعي الأميركيون أن الطائرات التي استهدفت دوما قد أقلعت منه.
على الرغم من تلك التقارير، فإن احتمال توجيه ضربة عسكرية ضد دمشق لا يزال أمراً مستبعداً ومن الصعب لترامب أن يذهب في هذا الاتجاه انطلاقاً من غياب أي رؤية واضحة تحيط بالدور الأميركي المستقبلي في سورية، وهو ما برز جلياً في تصريحات الرئيس الأميركي التي أعلن فيها عن نيته الانسحاب من سورية يوم الثلاثاء الماضي، ثم عودته عنها في أقل من 24 ساعة.
ترامب وافق على إبقاء قواته في سورية راهناً بحسب ما أعلنه البيت الأبيض يوم السبت الماضي، لكن الوجود الأميركي في سورية بات معلقاً في الهواء، والمؤكد أن الحسابات هنا تأخذ بالحسبان دعوة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الشهر الماضي التي طالب فيها كل القوات الأجنبية مغادرة الأراضي العراقية، وهو لم يستثن القوات الأميركية، أو حتى لم يقل إلا تلك التي هي موجودة بالتوافق مع الحكومة العراقية، وإذا ما خرجت تلك القوات من العراق فإن البقاء في سورية يصبح مستحيلاً، إذ لطالما شكل الوجود الأميركي في العراق عمقاً لوجستياً لا غنى عنه للوجود في سورية، وكذا انطلاقاً من حسابات عديدة وهي تتعدى إمكان المواجهة مع القوات الروسية في سورية، وهو احتمال شبة مؤكد، لتصل إلى حدود اعتبار أن القوات الأميركية في الشرق السوري ستكون في حال توجيه ضربة للجيش السوري أهدافاً مشروعة لهذا الأخير ودريئة سيتم استهدافها في حال جرى استهدافه.
من المقدر لهذه الأزمة أن تطول حتى تستنفد أسبابها وتتكشف المكاسب التي يمكن جنيها منها بالنسبة للأميركين والفرنسيين، إلا أنه من شأنها أن تعيد الحرارة إلى العلاقة الروسية الإيرانية إلى سابق عهدها، بعدما حملت المؤشرات التي ساقتها مجريات قمة أنقرة الأخيرة حالة تقارب روسي تركي فاقت كل التوقعات أو هي تجاوزت كل «الخطوط الحمر»، ومن الناحية الجيوسياسية فإن كل تقارب يمكن لموسكو أن تذهب به نحو أنقرة يعني تلقائياً تباعداً روسياً مع طهران بالضرورة، وربما كان ذلك التقارب يشكل مدعاة لقلق سوري انطلاقاً من الدور الذي لعبته، وتلعبه، أنقرة تجاه دمشق، وهي إلى الآن لا تخفي رغبتها في رفع درجة الزلزال السوري على «مقياس ريختر» إلى الدرجة التي تمكن من نسف الكيان السوري برمته برغم الكبح الذي تمارسه موسكو تجاهها، إلا أنها، أي تلك القمة، كانت قد سجلت نجاحاً مهماً تمثل في إظهار تراصف قوي يهدف إلى محاصرة الدور الأميركي في سورية، وهو ما يمكن لحظه في البيان الختامي الصادر عن القمة، والذي جاء فيه: إن المجتمعين عبروا عن «رفضهم لخلق واقع ميداني جديد في سورية تحت شعار مكافحة الإرهاب» ومن الواضح أن المقصود بذلك هو واشنطن التي تملك وحدها القدرة على القيام بفعل من هذا النوع بشكل مباشر أو من خلال توكيلها لطرف آخر، حيث تشي التطورات أن هناك ميلاً أميركياً إلى إسناد دور بارز لباريس في الشرق السوري، وهو تطور على درجة عالية من الخطورة لو حصل.
الرئيس التركي سبق له أن رفض أي دور سياسي يمكن أن تقوم به فرنسا التي عرض رئيسها عليه إقامة حوار تركي كردي برعاية فرنسية، فكيف الأمر إذا ما كان ذلك الدور عسكرياً، وهو سيفضي بالتأكيد إلى مواجهة عسكرية فرنسية تركية ولن تتردد أنقرة في افتعالها إذا ما اقتضت ضروراتها ذلك، ففي النهاية فرنسا ليست أميركا بمعنى أن أردوغان الذي يتحاشى المواجهة مع واشنطن لن يكون بوارد القيام بالفعل نفسه إذا ما جرى استبدال الأخيرة بباريس، والمشكلة هنا هي أكبر من الحرب السورية فركائز حلف الناتو سوف تهتز مع الإعلان عن سقوط أول قتيل فرنسي أو تركي في تلك المواجهة، وذاك أمر يتهدد المصلحة الأميركية إلا إذا كانت واشنطن ترى أن ذلك الحلف قد انتهت مدة صلاحيته، ما يعني عندها قيام هذي الأخيرة بمساع نحو تفكيكه.
ربما تشي السلوكيات الأميركية الأخيرة إلى أن واشنطن هي الآن بوارد إجراء تغييرات كبرى في إستراتيجياتها الخارجية وربما كان أمر من هذا النوع ليس ببعيد عن تلك التغييرات، انطلاقاً من أن الرؤية الأميركية باتت ترى في أغلبية الحلفاء عبئاً عليها وهو ما يمكن تلمسه في شعار «أميركا أولاً» وفي التجاهل القطع الذي تبديه واشنطن تجاه أنقرة بما بات يهدد العلاقة الأميركية التركية، الأمر الذي قد يحمل معه تموضعاً جيوسياسياً جديداً لتركيا ينقلها من الضفة التي تقف عليها الآن إلى الضفة الروسية، وبكل ما يعنيه ذلك أميركياً.
يوم الأحد الماضي تم الإعلان عن اتفاق يقضي بخروج مقاتلي «جيش الإسلام» باتجاه الشمال السوري، وعلى الرغم من أن ذلك يحمل الكثير من المكاسب والايجابيات إلا أنه يحمل أيضاً البعض من السلبيات، فتمركز أغلبية الفصائل العسكرية المتمردة على الدولة السورية في الشمال السوري أمر يطرح العديد من التحديات في الذروة منها بروز حالة عسكرية جديدة تسيطر على جغرافيا متصلة بالحدود التركية، وإذا ما كانت أنقرة اليوم عاجزة عن الخروج عما هو مرسوم لها روسيا في سورية فمن يضمن أن تبقى الحال على هذه الشاكلة إلى أن تحين معركة إدلب، والزكزاك السياسي الذي مارسه ويمارسه أردوغان يجعل كل شيء معه متوقعاً والحال اليوم لا ينبئ على الإطلاق بحال الغد.