ثقافة وفن

جان بول سارتر في يوم وفاته … قصة الجدار كدليل على العبثية وسخافة الوجود

| بشار أسعد- بيلاروسيا

«الوجود يسبق الماهية فالإنسان مسؤول عما هو كائن، فأول ما تسعى إليه الوجودية هي أن تضع الإنسان بوجه حقيقته، أن تحمّله من ثم المسؤولية الكاملة لوجوده، وعندما نقول إن الإنسان مسؤول عن نفسه لا نعني أن الإنسان مسؤول عن وجوده الفردي فحسب بل هو مسؤول في الحقيقة عن جميع الناس وكل البشر».

جان بول سارتر (1905-1980) فيلسوف وجودي وروائي وكاتب مسرحي وناقد أدبي وناشط سياسي فرنسي. ولد في باريس في 21 من حزيران من عام 1905 وتوفي في 15 نيسان من عام 1980 بسبب مرض «وزمة الرئة»، وتم دفنه في مقبرة «مونبارناس» في العاصمة الفرنسية باريس. شهدت حياته العديد من الأحداث الدراماتيكية والتراجيدية فقد توفي والده الذي كان ضابطاً في البحرية الفرنسية وكان «سارتر» وقتها يبلغ من العمر 15 شهراً. أشرفت والدته وجدّه «البرت شوايتزر» العالم الشهير، والمبشر اللاهوتي المسيحي على تربيته وتعليمه ولكنّ جده تسبب في تعميق وحدته وانعزاليته فنجد سارتر يقول عن ذلك في مقالته «الكلمات»: «كنت أبقى في المنزل بسبب أنانية جدي وحدة موقفه الاستحواذي». عندما كان «سارتر» في العاشرة من عمره تزوجت والدته للمرة الثانية وكان سارتر ينبذ زوج أمه، ولكن رغم ذلك ذهب للعيش معهما في مدينة «لاروشيل»، وهناك بدأ سارتر في الذهاب بشكل منتظم إلى المدرسة ولكنه لم ينسجم مع زملائه من الطلاب لذلك نجد سارتر يقول عن هذه الحقبة: «حاولت أن أشتري صداقتهم فقدمت لهم هدايا دفعت ثمنها من نقود سرقتها من كيس والدتي».
في عام 1920عاد سارتر إلى باريس ليدرس في ليسيه «هنري الرابع» الشهير ثم بعد ذلك في ليسيه «لويس الكبير».
في عام 1924 التحق بدار المعلمين العليا وبقي فيها حتى عام 1928 كانت الوظيفة الرئيسية لهذا المعهد هي إعداد الطلاب لامتحانات تنافسية تعرف باسم «الإجرجاسيون». كان المرشحون الذين يجتازون هذا الامتحان ينالون أجراً عالياً وساعات أقل من العمل من زملائهم الباقين.
على الرغم من فشل «سارتر» من اجتياز الامتحان في عام 1928 لكنه كان أكثر توفيقاً في عام 1929 وكان ترتيبه الأول بين الناجحين وفي المرتبة الثانية كانت «سيمون دي بوفوار» التي أصبحت حبيبة سارتر ورفيقة دربه ، حيث عاشا معاً من دون أن يتزوجا ولكنهما اتفقا على أن يكون كل منهم حراً في اختياراته وتصرفاته بشرط أن يتصارحا بكل مصداقية حول مختلف التفاصيل التي يمر بها كل منهما ، كما قاما معاً وبالتعاون مع الفيلسوف «موريس ميرلوبوتتي» بتأسيس مجلة الأزمنة الحديثة. خدم سارتر في الجيش تحديداً في قسم «الأرصاد الجوية» كما تمّ استدعاؤه للخدمة في عام 1939 وأصبح أسير حرب في ألمانيا النازية عام 1940 وتم إطلاق سراحه بعد عام من ذلك. عمل سارتر في التدريس وبعدها تفرّغ للكتابة. في عام 1964 حصل على جائزة «نوبل للآداب» ولكنه رفض وبرّر ذلك على أساسين: شخصي وموضوعي وكان يقول إنه يرفض التشريفات الرسمية والجوائز. تأئر بالفيلسوف «إدموند هسّرل» وتحديداً بفلسفته الفينومينولوحية، ويبدو قول هسّرل: «كل وعي هو وعي بشيء ما» خير دليل على ذلك، كما تأئر بالفيلسوف الألماني «مارتن هيدجر» الذي قال: «كل أنطولوجيا غير ممكنة إلا بوصفها فينومينولوجية». كتب العديد من الأعمال والروايات والقصص منها: تعالي الأنا موجود (1936)، الوجود والعدم (1943)، الوجودية مذهب إنساني (1945)، نقد العقل الجدلي (1960). ومن الروايات: الغثيان (1938)، الذباب (1943)، دروب الحرية (1945)، سجناء الطونا (1959). وفي مجال القصص القصيرة يبرز لدى سارتر العمل المهم الذي كتبه عام 1939 والذي أطلق عليه تسمية (الجدار) والذي سنتحدث عنه في مقالتنا هذه نظراً لأهميته التي تتناول مواضيع ركّز عليها سارتر في جميع كتاباته وأعماله مثل: العبث، العدم، القلق، الحرية، المسؤولية وغيرها من المفاهيم التي تعيشها الروح بعد أن يُقذف بها إلى الوجود.
يتناول سارتر في «الجدار» قصة ثلاثة أشخاص يتم اعتقالهم من السلطات الإسبانية أثناء الثورة التي أعلنها الجمهوريون ضد الحكم الفاشستي هناك. أبطال هذه القصة هم: بابلو إبياتا (الراوي)، توم ستيبنوك (عضو الفرقة الدولية)، جوان مربال (الفتى). يتم استجواب هؤلاء الثلاثة على شكل محاكمة سريعة، ويتم الحكم عليهم بالإعدام بتهمة «الإرهاب» هنا يظهر الخوف على «جوان مربال» ويقول للمحققين: «إن أخي جوزي هو الفوضوي وأنتم تعرفون هذا جيداً، إنه ليس هنا. أنا لا أنتمي لأي حزب، ولم أعمل بالسياسة مطلقاً» لكن المحققين لم يعيروا كلامه أي أهمية ويقومون باقتياده مع كل من «بابلو» و«توم» إلى السجن الذي كان عبارة عن غرفة في قبو أحد المشافي، وكان بارداً جداً ذا ثقوب جانبية وفتحة في السقف يمكن من خلالها رؤية السماء. كان هؤلاء الثلاثة يعيشون حالة من الرعب والخوف منتظرين في هذه الغرفة الباردة لحظة إعدامهم الذي سيتم تنفيذه غداً. بعد فترة يحضُر الحراس ومعهم طبيب بلجيكي ليقضي الليلة مع هؤلاء المعتقلين الثلاثة ويخفف عنهم آلامهم. يقول بابلو واصفاً حالته: «كنت مبتلاً بالعرق. في خضم الشتاء، وفي مجاري الهواء، كان العرق يتصبب مني ليس خوفاً من الموت بل لكوني صرت أشعر منذ الآن بالآلام في عنقي ورأسي» كما يروي بابلو حالة «جوان الفتى» الذي يسأل الطبيب: هل سيكون الإعدام مؤلماً؟ هل سيقومون برشة ثانية إن لم تكن الأولى ناجحة؟ وكيف حاول الطبيب البلجيكي تهدئة «جوان» وقال له: ليس مؤلماً، وكل شيء سيتم بسرعة. كان «جوان» يرتجف ويرتعش وكانت حالته هي الأسوأ. يتحدث بابلو عن «توم» الذي تظاهر بأنه ليس خائفاً من الموت ولكن هذا لم يمنعه من التبول اللإرادي في ثيابه ما يعكس واقع حاله. كان الجدار (البطل بالمعنى السلبي للبطل) بطلاً من أبطال هذه القصة على الرغم من كونه غير موجود واقعياً، إلا أن كلاً منهم كان يتخيل كيف سيراق دمه عليه عند تنفيذ حكم الإعدام بهم غداً. هنا يعرض سارتر طريقة تفكير كل منهم، ودور الفروق الشخصية والعمرية بينهم في تحديد انفعالاتهم وتعايشهم مع الحالة التي وجدوا أنفسهم فيها. يسألهم الطبيب البلجيكي إن كانوا يريدون ترك رسائل لأحد ما، ولكنهم يجيبون بالرفض. في اليوم التالي حضر الحراس فنادوا على «توم» و«جوان» الذي صار يركض كالمجنون في الغرفة ويقول: «لا أريد أن أموت» رغم ذلك يأخذه الحراس حملاً ويقومون بإعدامه هو و«توم». يفاجأ «بابلو الراوي» لماذا لم يقوموا بإعدامه مع أنهم حكموا عليه بالإعدام فيقومون بنقله إلى غرفة يوجد فيها اثنان من المحققين ويقومان بسؤاله: أين ريمون غري؟ يجيبهم «بابلو» لاأعرف. يقولون له: سنضعك في غرفة الغسيل لبرهة من الوقت اجلس وفكر، إذا قلت لنا أين هو سنطلق سراحك وإذا خدعتنا فستلقى مصيراً سيئاً. أعاد الحراس «بابلو» وسأله المحققون مرة ثانية: أين ريمون غري؟ قرر بابلو أن يخدعهم وقال لهم: «أنا أعرف أين هو ، فهو مختبئ في المقبرة، في قبو صغير، أو في كوخ الحفارين». كان بابلو يعتقد أنه سيعذبهم ويهزأ بهم وتخيّل كيف سيعذبونه عندما يعودون ولا يعثرون على الثائر «ريمون غري». عاد الحراس ووضعوا «بابلو» في الساحة الكبيرة تمهيداً لإطلاق سراحه، وهناك فجأة التقى «غارسيا» الذي كان يعمل خبازاً. قال غارسيا: لم أكن أفكر بأني سأراك على قيد الحياة. أجابه بابلو قائلاً: لقد حكموا عليّ بالإعدام، ومن ثم غيروا فكرتهم ولا أدري لماذا. قال له غارسيا: لقد غادر ريمون غري بيت عمه حيث كان يختبئ وكان يريد أن يختبئ عندك لو لم يتم القبض عليك، ولهذا ذهب واختبأ في المقبرة.
في المقبرة؟ سأل بابلو.
أجاب غارسيا: نعم. وجدوه في كوخ الحفارين فأطلق النار عليهم، ولكنهم أردوه. يتعجب ويصاب بابلو بالدهشة.
يقول بابلو: «كنت أشعر بالخجل بقوة»، «إلى حد أن الدموع سالت في عيني». بعد هذا العرض لقصة الجدار نقول لسارتر التالي: رغم أنك ترى «أننا محكومون بالحرية» ، وأن الحرية هي مسؤولية فعندما نقوم بالاختيار فإننا نختار ليس لأنفسنا فقط وإنما للوجود أجمع. هل اختار بابلو حريته؟ نعم اختارها. فهو باختياره التهكم من المحققين اختار الحرية وغاب عن ذهنه أنها مسؤولية، لكن كيف سيتعايش مع هذه الحرية التي تحققت له بفعل الخيانة غير المقصودة والتهكمية والعبثية ما تسبب بمقتل صديقه الثوري ريمون غري؟ كيف يمكن للذات أن تفهم وجودها إذا كانت تجعل من البطل جباناً يركض ويبكي؟ كيف سيكون شكل العالم من دون هذا الآخر الذي بسببه أشعر أن حريتي قد سلبت مني، ومن دونه لا حرية لي؟ يبدو لي الآن بوضوح أني أتنفس مقولة سارتر العظيمة: «الآخر هو الجحيم».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن