ثقافة وفن

الجلاء.. شاهد وشهيد

| إسماعيل مروة

استوطن الداء الخبيث في تلافيف الوطن الذي نفتديه، راح يتقلب بحثاً عن دواء لأجلنا، ليطهرنا ويطهر نفسه من داء لا يذهب عادة إلا بالروح، بالصبر حيناً، والسياسة حيناً، وبالقوة والتحدي في أحايين كثيرة، وفي أنحاء الجسد الممتد أراد الوطن أن يهزم داءه ليكون نقياً طاهراً من كل داء.. حتى كان له ما أراد، ليسلمنا نفسه معافى من كل داء ألمّ به.
الزمان: ذات صباح من عام 1920
المكان: على هدب من أهدابه في ميسلون.
الداء: قوة تعصف وتريد إنهاك روح الوطن واستباحته.
الحدث: الخبيث يتمدد من طرف الهدب ليدخل العين.
المجريات: لم يشأ يوسف العظمة أن يدخل المرض العضال الوطن من دون أن يجبهه ويجابهه، فتقدم مع عصبة من الوطن ليقف في ميسلون خطاً أول للدفاع عن سورية العظيمة، لم يكترث لخاتمة وضعها بنفسه، فهو يدرك النتيجة قبل أن يواجه الخطر، ويعرف أنه لن يقدر على فعل شيء، لكن الذي لم يعرفه أنه فعل كل شيء.. لم يحسب حساباً لغورو وعدته وعدده، فهو تجمعت في عينيه خريطة سورية وكرامتها وتاريخها وإنسانها، بل ارتسمت في عينيه خريطة الغد القادم، فأراد أن يرسم بدمه، وأراد أن يجابه بذاته وروحه.. كان يعرف الخاتمة، لكنه كان بعيداً عن قراءة غور الغد البعيد، تقدم العظيم العظمة في الرابع والعشرين من تموز ليقول: لن يمروا، ولن يدخلوا سورية من دون مقاومة، فقاتل وصمد، ورسم بروحه قبل دمه خط النهاية للمرض الاحتلالي الخبيث، وكان خط بصره وبصيرته، وكان أثر دمه أول كلمة في ورقة الجلاء التي حملها السوريون بعد ربع قرن.. وما بين خط البداية وخط النهاية كان يوسف العظمة منارة وثأراً ومقاومة، ورقد هناك يحرس رموش سورية، ويهدي لأرضها شتول السرو الأخضر، لتكون أرض سورية خضراء من دمه وروحه..
الزمان: لحظة ممتدة لربع قرن.
المكان: في كل فاصلة ومسام من سورية.
الداء: عضال فتّاك يتلف خلايا الجسد السوري.
الحدث: داء يفتك، وخلايا عصية تتجدد بروح كل شهيد.
المجريات: منارة الساحل يتقدمها صالح العلي وقبل أن تمتد راية ميسلون، ومنارات تنتفض في كل خلية سورية، فلحارم سيدها إبراهيم هنانو، وللجنوب أحمد مريود، وللشام محمد الأشمر وللغوطة حسن الخراط وثوارها، وللجبل الأشم سلطانه سلطان باشا الأطرش، وللسياسة رجالها ورجالاتها، وللأدب والحماس أهله، فهب شكري القوتلي وفخري البارودي والبكري وخير الدين الزركلي والأتاسي والجابري وفي كل زاوية من سورية العظيمة هبّ وفيّ سوري، فذا دواء، وذاك ضماد، وهذا يداوي، وذاك يتسلم الجسد الطاهر، الشهبندر راية لم تخذل العروبة، وأسلم الراية للمقاومين في كل بقعة من أرض سورية الحبيبة.
في المزرعة هبوا.. وفي المسيفرة قاتلوا
وفي البرلمان أعطوا صورة الصمود وكشفوا قبح المرض العضال..
ظن أنه نال منهم.. لكن البقاء أقوى
نهض من بين الدمار ليروي الحكاية.
وفي دمشق حريقة وحريق، واستمر اللهب، وتطاول الشرر العنيد في كل زجاج معشق، وفي فسيفساء الروح الشامية، وحين انجلى الحريق بقي كل شيء، وغادر المرض اللعين، وما تبقى من زجاج معشق، وسيف دمشقي في صدر المجلس، وعلبة من فسيفساء تحتفظ بها الحسناء لتخفي عن الأعين جوهرة دمشق وسورية.. كان ما تبقى شاهداً على الإنسان والبقاء.
والطفل في يد أمه غرض الأذى..
والشيخ متكئاً على عكازه..
ولم تستطع ألسنة اللهب، ولا جائحة المرض الخبيث أن تنال من سورية وأهلها وأرضها وكنوزها.. كلما نال المرض خلية أزهرت خلايا..
ومن أقصاها إلى أقصاها كانت سورية تتزين بما علق من دم العظمة، ومن دماء رفاقه، ومن حكايا البطولة في حوران، والجزيرة والساحل، وحماة وحمص ودمشق، تزينت لتخرج في أبهى زينة كما تجلى العروس في ليلة التمّ..
الزمان: لحظة خلد تتجاوز الزمن القادم، وتحرق ما مضى.
اللحظة: انبثاق فجر الحرية في 17 نيسان 1946
الدواء: تطهر من الداء الخبيث وعودة الروح إلى سورية والجسد.
الحدث: مغادرة الداء ذليلاً صاغراً وتعملق الوطن وخلاياه
المجريات: أزهر الورد والتمر في نيسان، تأخرت الشمس، بقيت الأزرار في حالة تحفز..
لم ينل منها صقيع، ولم تسبق إليها حرارة شمس، وفي السابع عشر من نيسان أشرق دفء شمس سورية الوطن، وتفتحت أزرار الزهر، كانت المساحة المزهرة من طوروس إلى فلسطين ومن البحر إلى نجد.. حلب زهرة الأزهار، ودمشق وغوطتها ثمرة الاستقلال وارتفع النشيد عالياً..
فذا شفيق جبري، وذا بدر الدين الحامد، وذا بدوي الجبل، وذا عمر أبو ريشة
في ذلك اليوم صار الحجر شاعراً
في ذلك اليوم صار الشاعر رسولاً
في ذلك اليوم كان الوطن عروساً
تاهت العروس.. تباهت.. نجت من المرض العضال..
لم يتمكن المستعمر منها
ولم تجد غورو وساراي كل وحشية كانت
وفي البرلمان نهض أبناؤه وشهداؤه
كانت دماؤهم طازجة.. لم يرحلوا.. بقوا يحرسون برلماناً ووطناً.
النتيجة: في ذلك اليوم نهضت راية العظمة، وكان عريس الجلاء، زفه العلي والأطرش غناه الشعراء، وكانت قصائدهم زهوة الدنيا، وقلائد على جيد سورية، تشهد بأن هذا اليوم كان ممهوراً بالدم، ولم يكن هبة من أحد.. أفلح الساسة، لكنهم بالدم الطاهر اقتدوا، وثمن الأرواح الصاعدة إلى السماء كان الجلاء..
دفع السوريون دماءهم
اختلطت دماؤهم الطاهرة، ولم تعرف هوية واحد منهم
كبروا لعيسى.. وقرعوا الناقوس لجسد محمد
وكان الوطن انتماء وأكبر من انتماء.. وكان الجلاء لحظة خلد لا تتكرر
لم يبق في الوطن من لم يشارك في تسجيل تلك اللحظة
وما في الأرحام شهد ولادة وطن نفتديه..
الوصية: كان الجلاء حدثاً ووصية.. كان غاية وهوية
حققه معاصروه، وحافظ عليه التابعون والأرحام تتغنى به وتحفظه بالعيون
وما من عبث ينهض قاسيون في يومه
يشمت بالجبارين بعد أن كان جباراً واحداً
ويقول: بعد أن ارتفعت بدم الأبناء الشهداء لا يعنيني من يرقّ لبلوانا
فأنا قاسيون الحصن والملاذ
القمة والمغارة.. وفيّ السر الباقي ما بقيت
يحتضن قاسيون العلم
ويبدأ خليل مردم قراءة نشيده الخالد:
حماة الديار عليكم سلام..
منا الوليد ومنا الرشيد..
يتلاشى الصوت.. ويرتفع على المدى صوت الشهيد..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن