ثقافة وفن

خلايا نائمة أم كامنة؟

غسان كامل ونوس :

ليس مصطلح «الخلايا النائمة» جديداً في مفهومه، وربّما في لفظه؛ لكنّ تداوله تضاعف في السنوات الأخيرة، وفي الظروف التي تسود في مناطق مختلفة من العالم، ولاسيما في المنطقة العربيّة مؤخّراً، ومنها الحرب العدوانيّة المتواصلة على سوريّة منذ أكثر من أربع سنوات.
ويشير المصطلح إلى «فرد أو عدد محدود من الأفراد، في مجموعات منفصلة، يسمّى كلّ منها خليّة، تزرع منعزلة، وبسريّة تامّة في المواقع المستهدَفة، لاستخدامها متزامنة أو متفرّقة في تنفيذ مهمّات محدّدة في أوقات لاحقة».
ومن الواضح أن هذه الخلايا تعمل لحساب جهة ما، وتنفّذ المطلوب منها، ومن ثم، لا يصحّ معها التوصيف «نائمة»؛ بل «منوّمة»؛ لأن حضورها خاملة أو نشطة مرهون بمن يتحكّم بها، ومن هنا يأتي التناقض الأول في التسمية! أمّا التناقضات الأخرى، فتظهر من خلال التمحيص في حقيقتها؛ فهل هي فعلاً في حالة نوم، بلا أي نشاط واعٍ أو إحساس مدرك، خلال مدّة انتظار الأمر للقيام بالمهمّة؟ وهنا أيضاً لا يصحّ تعبير منوّمة؛ لأنّها قد تكون؛ بل يفترض أن تكون في حال قصوى من التنبّه واليقظة، لاستشعار ما يجري حولها في البيئة القريبة والمحيط المتباعد، والتقاط التفاصيل، واستيعاب المَشاهد، حتّى لو لم تكن تعنيها مباشرة؛ لكنّها تتداخل بشكل أو آخر مع مفردات حياتها وحاجاتها إلى الطعام والشراب والتحرّك والعمل.. ربّما؛ مهما أبدت من التغافل أو الانبتات أو اللامبالاة؛ هذا إذا لم تكن من مقدّمات مهمّاتها أو متطلّباتها متابعة ذلك في نطاق معيّن؛ أي رصد أشخاص أو علاقات أو أحداث أو أحاديث متداولة، أو حتّى بثّ أفكار وتساؤلات ومقولات ومصطلحات وأخبار كاذبة، أو صحيحة لكنّها مؤذية، وافتعال أزمات اجتماعية واقتصادية أو تضخيمها، والتقاط ردود أفعال عمّا يجري، أو يُثار بشكل طبيعي، أو عن طريقها؛ إضافة إلى محاولة تجميل صورتها، والظهور بمظهر المحسِن المبادر إلى العون وتقديم الخدمات، وإبداء الحماسة في ذلك؛ لكسب ثقة المجتمع الذي يعيش أفرادها فيه، وخاصّة أن مهمّتها ليست راهنة أو فوريّة؛ فقد يتطلّب الاستعداد لها والقيام بها فترة طويلة.
وتقترب هذه الخلايا عندئذ أو بعدئذ من تسميات أخرى معروفة، وقد تتقاطع معها، أو تتلاقى: العملاء والجواسيس والوكلاء والطابور الخامس.
وقد يكون أفراد الخليّة من سكّان البلد المستهدَف نفسه، أو من بلدان أخرى، يتمّ إرسالهم إلى المنطقة المنظورة لأسباب يفترض أن تبدو وجيهة، أو مسوّغة، حتى لا يبدو وجودهم غريباً أو مثاراً للتساؤل ومدعاة للريبة؛ وليست مسألة استخدام أشخاص مرتزقة جديدة؛ بل يعدّ الارتزاق ثاني أقدم مهنة في التاريخ بعد البغاء.
ويتمّ تدريب أفراد الخليّة عادة خارج أماكن عملها، وتختلف هذه التدريبات حسب مهمّتها؛ فقد تكون الغاية الاستطلاع، وجمع المعلومات، وإرسالها، وبثّ الدعايات المغرضة، أو نقل الأسلحة والمتفجرات، والقيام بعمليّات اختطاف أو اغتيال أو قتل أو ترويع، مع ما يتطلّبه كلّ ذلك من مهارة في التمويه والتضليل واستخدام وسائل الاتصال، وأدوات التفخيخ والتفجير، والأسلحة الفردية المعروفة أو الخاصة، والتحرك قبل المهمّة وبعدها.
و«الخليّة هي أصغر وحدة بنائيّة ذات وظيفة في الكائن الحي، نباتيّة كانت أم حيوانيّة، وتتألّف من أجسام صغيرة تدعى عضيّات، ونواة تحمل الشيفرة الوراثيّة، وحولها غشاء خلويّ أو غلاف سيللوزيّ، وعمل الخليّة دقيق جداً من خلال إفرازات وأنزيمات وهرمونات وسواها، ويختلف نشاط الخليّة حسب وظيفتها، والمرحلة العمريّة، وموقعها في الجسم، والظرف الذي يعيشه الكائن الحيّ؛ فقد تكون نشطة، ثم تميل إلى الخمول، فالموت، أو العودة إلى النشاط. وهناك خلايا تتظاهر بالموات، حين تعرّضها لمؤثِّر ما، لتفادي الضرر، ولمواجهة الخطر؛ فتستطيع الصمود، والبقاء على قيد الحياة، ثم تتأقلم مع الوضع القائم، وتعود إليها الحيويّة والفعاليّة.
وقد اُكتشف أمر هذه الخلايا التي تسمّى أيضاً «الخلايا الصامدة أو الكامنة أو الخاملة» للمرّة الأولى في العام 1944م، حين أصبح استخدام البنسلين في العلاج على نطاق واسع». وهناك أمراض عديدة، باتت معروفة بأنها تبقى في فترة كمون، تصل إلى سنوات لدى المصابين بها قبل ظهورها وتفاقمها؛ مثل السرطان، ونقص المناعة المكتسب الإيدز، والسلّ وسواها.
ومن هنا نرى أن إطلاق تسمية الخلايا على المجموعات التي تُزرع خلف خطوط العدوّ، أو بين ظهرانيه، تسمية معبّرة؛ لكنّ من الخطل، وربّما الخطأ المقصود إيهاماً نفسيّاً، وتخفيفاً من أثرها حتّى في اللاشعور، أن نقول إنها خلايا نائمة؛ فالأفضل تعبيراً عن الواقع، وألأدقّ توصيفاً للحالة والغاية، والأكثر مدعاة للحذر والتنبّه إلى وجودها وأهدافها، أن نقول: إنها «خلايا كامنة».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن