ثقافة وفن

أيام دمشقية موشّحة بالحب والأمل … أودّع سورية وكلي أمل بأنها ستقوم مرة ثانية من تحت الرماد

| بقلم: سامي كليب

ما عاد الطريق من دمشق إلى بيروت مزدحماً، ولا عادت طوابير السوريين تنتظر عند الحدود تأشيرة للنزوح صوب لبنان.. الحركة صارت أكثر بالاتجاه الآخر من لبنان إلى سورية. ينتعش الأمل، وخصوصاً بعد استعادة منطقة الجنوب السوري بانبعاث سورية من تحت الدمار والدماء والموت. ينتعش كثيراً هذه الأيام رغم أن ربع الساعة الأخير في الحروب الشرسة تبقى صعبة.
تزدحم فنادق ومطاعم دمشق حتى يكاد الزائر لا يجد مكاناً للمبيت أو السهر. تزدحم مواقف السيارات أمام الأماكن السياحية في باب توما حيث كان الموت قبل أشهر يحصد الأبرياء كل يوم. يشعر زائر المكان أن في كل زاوية وتحت كل حجر تكمن مئات السنين والقرون من الحضارات والثقافات والعراقة. لا يضاهي هذا الازدحام المبشّر بقيامة سورية، غير زحمة الأسئلة بشأن المستقبل.. فما بعد الحروب غالبا ما يكون صعباً ومعقداً لبلسمة الجراح. ليس سهلاً الحصول على غطاء دولي للتوافقات الداخلية إلا إذا قدّمت الدولة السورية تنازلات في اللجنة الدستورية العتيدة. الروسي يضغط. المعارضة وحلفاؤها يجاهدون للحصول على مكان، وقيادة الرئيس بشار الأسد تسعى لتعديل الطموحات على أساس أنها بعد كل ما قامت به لحسم الجزء الأكبر من المعركة عسكرياً لا يمكن أن تقدم تنازلات كبيرة في المستقبل.

إلى الحل السياسي هناك أمراء الحرب، الذين كما في كل حرب قد حجزوا لأنفسهم أماكن مهمة في معاقلهم، فكيف ستقنعهم بالتخلي عن السلاح من دون التخلي عن مكاسب الحرب وغنائمها. اغتنى بعض أمراء الحرب وأثروا، على حين قد لا يفاجأ الزائر بأن يرى جنوداً أو أبناء شهداء لا يحصلون على ما يحفظ كرامتهم إلا بعد جهد جهيد. هكذا هي الحروب، تحتاج إلى ورشة إنسانية واجتماعية واقتصادية ونفسية لتصحيح ما تشوه، فكيف إذا كان في الأمر حرب ضروس من أشرس ما عرفته البشرية في هذا القرن؟ ثم ماذا عن الإسلام الاجتماعي والسياسي المتجذر في المجتمع السوري؟ كيف سيمكن إبقاؤه في إطار الاعتدال؟ ما حقيقة وجود ٧٢ ألف داعية؟ مَنْ القبيسيات؟ من سيقدم أنموذجاً إسلامياً جديداً في دولة علمانية؟ هل تنجح التفاهمات السياسية في إبقائها علمانية؟ وماذا عن التعددية ودور حزب البعث لاحقاً؟ الأسئلة كثيرة مطروحة على بساط النقاش، وهذا أمر صحي جداً.
أستهل يومي الأول بلقاء صباحي يختصر الثقافة واللطافة والدبلوماسية العريقة والحضور المحبب وغنى التاريخ والحاضر. كيف لا يكون كذلك وأمامي قامة سياسية وأدبية وثقافية نادرة هي الدكتورة نجاح العطار نائب الرئيس السوري. لا تزال هذه السيدة الأنيقة الحضور والملبوس والحديث والعميقة الثقافة والمعارف، تضخ حيوية في أي لقاء رغم الثمانين حولاً ونيّف. فاجأتني فعلاً ليس بجمال استقبالها فقط، وإنما بذاكرة تستعيد أدق التفاصيل بالأسماء والأمكنة والأرقام.. هي التي قبّل يدها احتراماً الرئيس الفرنسي جاك شيراك، وحصلت على أرفع أوسمة الاتحاد السوفييتي واختيرت أكثر من مرة إحدى أكثر نساء العالم ثقافة وحضوراً وقيمة ودوراً.
تنقل لي الدكتورة نجاح رسالة ودّ وترحيب واهتمام من الرئيس بشّار الأسد. أشكرهما بعد أكثر من ساعتين من اللقاء الممتع، وأذهب إلى فندق الشام العريق الذي يحتفظ بكثير من دقة وحرفية الصناعة الشامية الراقية والدقيقة من منمنمات التاريخ.
يتحول الغداء إلى جلسة من النقاش العميق والمنفتح والشفاف حول ما طاب من لذيذ الأكل. حول الطاولة الوزير المكلف بشؤون الرئاسة السورية الدبلوماسي العريق العميق واللطيف والرياضي المحترف منصور عزام. إلى جانبه الدكتور المثقف والمستشار الرئاسي الذي لا يظهر كثيراً على الإعلام لكنه كان ولا يزال يتولى ملفات كبيرة الأهمية. يلفتني الدكتور هيثم سطايحي بذكائه الحاد وسرعة بديهته وصراحة شرحه للأوضاع حاضراً ومستقبلاً وبدماثة الخلق وخفة الدم. نتحدث عن منع بعض الكتب في المعرض. الجميع مقتنع بضرورة توسيع الهامش وأن بعض المنع كان بسبب سوء تقدير وليس بقرار. أقول لهم إنه لو قرأ الرئيس الأسد بعض الكتب الممنوعة لسمح بنشرها. يوافقون. الجميع مقتنع أن ثمة سرعتين في البلاد واحدة تشبه محرك الطائرة في الرئاسة وأخرى تشبه محرك سيارة فولكس فاغن في الإدارات.
يشرح وزير الثقافة الصديق المحب محمد الأحمد الذي لم يؤثر الدهر في شبابه (ربما أثر في سمنته قليلاً هه) ولا شوهت الحرب ثقافته التي بناها من على السينما وورث الكثير منها من جده الشاعر العربي الكبير بدوي الجبل. يشرح لنا بشفافية أمور الثقافة والطموحات والمشاريع الكبيرة. يبدو الأمر فعلاً واعداً بمستقبل أكثر إشراقاً.
إلى جانبي الصديق المتجدد شبابا وشعرا وأدبا ودبلوماسية، منعتَ الكثير من الخضات في لبنان السفير علي عبد الكريم علي. أطلب من السفير علي أن يذكر لنا بعض أبيات الشعر التي كتبها بدوي الجبل لحفيده (وزير الثقافة الحالي). تُفرج ذاكرة الدبلوماسي المثقف عن عشرات الأبيات وعن قصائد عديدة، فيذهلنا بدقة ذاكرته وبجميل إلقائه. ومعنا يُبدع الزميل الصديق حسن مقلد الخبير بشؤون سورية ولبنان وبشؤون الاقتصاد والمحب بعمق لسورية، يُبدع في الشرح المقتضب والمهم لمستقبل إعادة الأعمار في سورية، أما صديقي المثقف العميق واللطيف الحضور والمتخصص بشؤون تركيا وسورية الدكتور عقيل محفوض فهو لا يتحدث كثيرا لكن حين يقول شيئا فإنما يُخرج جوهرة سياسية من بين شفتيه، وقد غمرني هو وأصدقائي الكتاب والمثقفون والباحثون في مركز «مداد» الذي على رأسه الصديق العزيز هامس زريق بكثير من الود والحب والنقاش الممتع بعد الغداء. تزيد النقاش لطافة في مداد نائبة عميد كلية الإعلام الدكتورة المذهلة بمعلوماتها وشرحها نهلة عيسى، ولو نسيت شيئا فإن العميد والباحث تركي الحسن يضيف الباقي بشرحه الدقيق والشفاف والمصيب.
مختصر أحاديث الغداء، إن سورية تودّع آخر مراحل الحرب، لكن ورشة ما بعد الحرب ليست سهلة رغم ما تحمله من أمل كبير بأن تقوم سورية من تحت الرماد أجمل مما كانت.
يرخي المساء شال نسماته على إحدى أقدم المدن المأهولة في تاريخ البشرية. يتجمع المحبون في معرض الكتاب، ينثرون ابتساماتهم ومحبتهم عليّ أنا القادم لتوقيع كتبي. قلّما وجدت شعبا عربيا أصيلاً مُحباً بصدق للضيف إلى هذا الحد. ندخل إلى مكتبة الأسد، يستقبلني مديرها الأستاذ إياد المرشد بترحيب المحب هو الذي ترك البرازيل ليساهم في ورشة إنعاش الثقافة والإبداع. نشرب بعض قهوة ويتخلل الحديث عتبي على منع بعض الكتب. يشرح ويبرر ويعد بالكثير ويقول لي إن ثمة أمورا جرى تصحيحها فوراً ولم تكن فعلا نابعة من قرار منع. أفهم أن الرئيس الأسد نفسه تدّخل لتوسيع هامش الحريات في المعرض ولتخفيف المنع. يدخل سفير مصر في دمشق الدبلوماسي الحيوي والكاريزمي الذي خبر سورية وأهلها حتى بات يعرف كل التفاصيل فيتوسع إطار النقاش ويتعمق. لا يزال الصديق محمد ثروت على معهود محبته وابتسامته التي لا تفارق محياه. ثم يدخل السفير علي ويتوالى حضور الضيوف من سياسيين ومثقفين وعسكريين.. نتجمع مع نخبة من الأصدقاء وننزل معاً إلى قاعة المكتبة… اعرض رؤيتي للأوضاع وتطورها. لا أجامل ولا أمدح ولا أذم. أتمنى التخفيف من منع الكتب. يفرح البعض وتنزعج قلة، لا بأس، فأنا هنا لأقول ما يقوله المحب، وهو أن نرى سورية الطالعة من تحت الدمار قد شكلت نموذجا جديدا للثقافة والإعلام والانفتاح… لعل السوريين أنفسهم ملّوا من الأبواق والمطبلين والمزمرين… هم يريدون فعلاً من يصارحهم لا من يمالقهم.
بعد الندوة يفاجئني أحبتي السوريون بما يشبه المهرجان. يتحلقون حولي بقلوبهم المحبة وشغفهم وشوقهم، يرقص قلبي فرحا لتلك الوجوه الصادقة بحبها وغيرتها وحماسها. تتعب يدي من توقيع الكتب لكن قلبي يزداد فرحا بأن أرى في هذه الوجوه والعيون الأمل بأن سورية ستكون أجمل.. يستمر التوقيع ساعات طويلة. يرافقني حتى طاولة التوقيع وزير الثقافة ونخبة من المثقفين والسياسيين والإعلاميين والمحبين. يقف المحبون طوابير طويلة. تحضر العميد في الجيش العربي السوري الصديقة والشاعرة عدنة خيربك التي تنضح محبة بوجهها الجميل، تجلس قربي إلى طاولة توقيع الكتاب. نسرق بعض لحظات قليلة للحديث عن سورية وأهلها. يؤنسني حديثها اللطيف والصريح والشفاف… يؤنسني كذلك اللقاء مع وجوه أعرفها عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو عبر الشاشات. إعلاميون كثيرون جاؤوا بقلوبهم المحبة وعقولهم التائقة لما هو أجمل بعد الحرب. لقاءات إعلامية كثيرة أجريها في خلال وبعد التوقيع. تتفضل صحيفة «الوطن» برئيس تحريرها الصديق الوفي والصحافي المحترف وضاح عبد ربه بنشر صفحة كاملة عن نشاطي وكتبي في سورية، تنتشر مقالات أخرى في الصحف وفي وكالة سانا. أشعر بأن الاهتمام أكثر مما توقع.
يرافقنا في المغامرة ذاك السوري القومي الاجتماعي المثقف والنبيه والسريع البديهة والحاضر الطرفة دائما طارق الأحمد، ترافقه زوجته الرائعة باستقبالها وحضورها السيدة رفيف. ينظر إلى ناشر كتابي في دمشق الصديق المحب اياد حسن صاحب دار الفرقد. يفرح لكل هذا الجمع الغفير، ليس حبا بنتيجة مادية، فريع الكتاب ذاهب للطلاب الأيتام، وإنما لأن ما نراه اليوم لم يحدث سابقا في مكتبة الأسد أو المعرض. تحضر زوجته وأبناؤه فأشعر معهم ومع كل من حضر بأني بين أهلي وإخواني وفي بيتي.
تمر ساعات التوقيع سريعة. تُعلن مكتبة الأسد والمعارض إقفال الأبواب. يستمر تدفق المحبين، يرجئون إقفال الباب قليلا لأجلنا. يقترح الأصحاب أن نسهر في باب توما. يشبه المكان خلية نحل. العراقة في كل مكان، وفرح الناس كذلك. نسأل في ٤ مطاعم فلا نجد مكانا. تشاء المصادفات أن المطعم الوحيد الذي استقبلنا كان فيه زفاف. سهرنا مع الفرحين بزفافهم. قام الكثير من الناس يريدون التقاط صور أو الترحيب. شعرت بأني فيما يشبه الحلم لكل هذا الحب. كان قد سبق العشاء لقاء مهم جدا مع المعهد الدبلوماسي. قدمت فيه ندوة عن البروباغندا والسياسة وسورية. أخجلني مدير المعهد السفير الصديق غسان بحسن استقباله. فرحت لما يحضرونه لمستقبل الدبلوماسيين الشباب من لغات أجنبية بما فيها الصينية والهندية. يبدو الرئيس الأسد مهتماً جدا بتطوير هذا المركز لتخريج نمط جديد من الدبلوماسيين الواسعي المعارف واللغات. أرى أمامي وجوها شبابية جميلة وثيابا أنيقة تزيدهم ألقاً، فأمني النفسي بأن ثمة أمورا فعلا ستتغير.
أما سهرة اليوم التالي، فكانت بدعوة كريمة من المبدع السوري الكبير غسان مسعود. الرجل الذي راح يحدثنا من خلف لحيته البيضاء ونظارتيه شبه السوداوين يحمل قلبا أبيض كطفل وعقلا واسعا ككل مثقف يحترم نفسه. حمل غسان ابن العائلة العريقة بالمجتمع والدين والسياسة، حمل سورية والعرب إلى مصاف العالمية حين لعب في أهم الأفلام. بقي في سورية رغم كل المغريات التي قدمت له على أطباق من ذهب وألماس. يدور الحديث عن الثقافة والأفلام والسياسية وإلى جانبنا نخبة من المخرجين والباحثين السياسيين والعسكريين… أشعر بأن غسان مسعود المحب والطيب والصادق والشفاف، يختصر الكثير من سورية التي نعرف، فهو عريق الثقافة واللسان، عميق المعارف، جميل الكلام، يعلو صوته ويخفض كما حال سورية مع كل كبوة ثم قيامة من تحت الرماد…
لقاءات كثيرة غمرتني بالمحبة في سورية، بعضها ذكرته هنا وبعضه لن أذكره لأسباب قد أشرحها لاحقا وتفرضها أمانة الجلسات المهمة. فهمت الكثير وخصوصا أن العزم كبير لإطلاق ورشة إعادة إعمار الحجر والبشر والنفوس والمجتمع لكن الأمر ليس سهلا. شكرا لكل الذين اهتموا في هذه الزيارة من الرئيس حتى الناس الطيبين البسطاء. فقد كانت أياما من السحر والمتعة والحب.
كيف لا أودع سورية وفي قلبي غصة الفراق؟ كيف لا أودعها وكلي أمل بأنها ستقوم مرة ثانية من تحت الرماد، وأن أهلها المحبين الطيبين سيعيدون بناءها بأجمل مما كانت رغم أن ما بعد الحرب أصعب بكثير مما قبله. أيها السوريون إني أحببتكم وأحبكم، وستبقى بلادكم- بلادي، قلب العروبة النابض.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن