ثقافة وفن

الفعل السياسي يذهب بسرعة ويبقى الفعل الثقافي … د.دخل الله: السياسة تسعى لتشييء الإنسان على حين الثقافة تسعى لأنسنة الأشياء

| وائل العدس- تصوير طارق السعدوني

في سابع أيام معرض الكتاب الدولي الثلاثين، وضمن الفعاليات الثقافة المرافقة له، ألقى عضو القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي د. مهدي دخل الله محاضرة بعنوان «بين الثقافة والسياسة»، إذ يرى أن السياسيين يعمدون في كثير من الأحيان إلى أن يصبحوا مثقفين، لذلك هم يحاولون إظهار سياساتهم بأطر ثقافية، على حين المثقفون غالباً ما يحاولون إظهار ثقافتهم وكأنها حلول سياسية للمجتمع.
وأورد دخل الله فوارق جوهرية بينهما، فالسياسة تسعى لتشييء الإنسان على حين الثقافة تسعى لأنسنة الأشياء والسياسة تميل إلى المنظومة بينما الثقافة تلقائية والأولى نتاج الفعل المصلحة في حين الثانية نتاج المثل والأخلاق.
كما لفت إلى أن السياسة تعكس الواقع ولا تحاول بناء وعي حول جوهر الوجود وتسعى إلى جعل المصالح مضموناً للوعي من دون أن تكون هذه المصالح بالضرورة إنسانية عامة، على حين أن الثقافة تعيش الواقع الافتراضي لذلك فالمثقفون غالباً ما يعتزلون الحياة العامة ويحيون في واقعهم ويبحثون عن معنى جوهر الوجود وكينونته كما أن الثقافة تهتم بالقيم المطلقة.

علاقة تلافظية
وفي تصريحه للصحفيين بعد المحاضرة قال دخل الله: هناك علاقة تكاملية في إطار المجتمع بين الثقافة والسياسة ولكن العلاقة الحقيقية التفصيلية هي تلافظية؛ لأن مضمون الثقافة ودوافعها وأهدافها شيء، ودوافع السياسة وهمومها، وأهدافها شيء آخر.
وأردف: وعليه لا يمكن الجمع بين الثقافة والسياسة كون الثقافة دائماً نقدية تبشيرية، تبشر دائماً بمجتمع أفضل لذلك هي نقدية بالجوهر، والنقد معناه كشف معنى الجوهر كما يقول ابن رشد، وبما أن الجوهر هو جوهر متطور، فإن الثقافة دائماً تنادي بالأفضل للتطور، لأن جوهر الواقع متطور. على حين السياسة تقديرية تقوم على إدارة صراع معين من أجل حماية مجتمع ما، كي لا ينفجر هذا الصراع.

علاقة إشكالية
وبالعودة إلى المحاضرة، فقد أكد دخل الله أن السياسة والثقافة موضوع إشكالي ومعقد، وكذلك العلاقة بين السياسة والدين وخاصة أن الدين مكون من مكونات الثقافة، مشيراً إلى أن العلاقة بين الثقافة والسياسة علاقة إشكالية بالضرورة ولم تحل حتى الآن وفيها وجهات نظر كثيرة، لكن بين الثقافة والسياسة كمكونين من مكونات البناء التحتي في المجتمع نوع من التكامل، رغم أن الأساس هو التنافر والتناقض.
وقال: تاريخياً كانت السياسة تنتصر على الثقافة على الرغم من أن الثقافة قد تنتصر على المدى الطويل، لكن السياسة إجمالاً في كل مرحلة تاريخية هي المنتصرة.
وضرب مثالاً قصة سقراط الذي يعتقد أن المجتمع كالجسم ومن الضروري أن يحكم الجسم الرأس والعقل أي أن تحكم الثقافة المجتمع، وكان هذا لمجتمع أثينا أمراً صعباً لذلك حكم عليه بالإعدام بتهمة إفساد جيل الشباب، وفي المحكمة قال لهم: «أنا ذاهب إلى الموت وأنتم ذاهبون إلى الحياة» ثم سأل: ترى مصير أي منا أفضل؟ ويقصد أيهما أفضل الثقافة المقتولة أم السياسة الحية؟.
عقدة نقص

ورأى دخل الله أن هناك عقدة نقص لدى المثقفين والسياسيين، فالعاملون في الثقافة يريدون أن يصبحوا سياسيين، والسياسيون في كثير من الأحيان يريدون أن يصبحوا عاملين في الثقافة، لذلك يحاولون إظهار سياساتهم بأطر ثقافية، أما المثقفون فغالباً ما يحاولون إظهار ثقافاتهم وكأنها حلول سياسية للمجتمع، مبيناً أن بعض المثقفين يعتبرون أن السياسة مضاد للثقافة، ولهم مسوغات لهذا المعتقد.

بين الدين والسياسة
وأوضح أن العمل السياسي يبدأ ثقافياً تبشيرياً بواقع افتراضي أفضل، لكن غالباً ما تخضع الثقافة للسياسة ونحن نرى ماذا حل بالثقافتين المسيحية والإسلامية بعد موت النبيين العظيمين، كيف أن أصحاب النبي تقاتلوا فيما بينهم، حيث بعد موت النبي بدأت السياسة تركب على الثقافة، فأصبح الناس الذين يتبعون ثقافة واحدة وهي الثقافة المحمدية يقتل بعضهم بعضاً لكن ليس من أجل الثقافة وإنما من أجل السياسة، وكذلك الحروب الدموية بين الأرثوذوكس والبروتستانت والكاثوليك التي لا تزال قائمة حتى الآن في إيرلندا الشمالية والبلقان، وهي حروب وحشية وداعشية وبشعة جداً رغم حضارة أوروبا، وللأسف إن الرأي العام الأوروبي لا يعرف أن المسيحيين يقتلون بعضهم كما المسلمون بغض النظر عن التطور الحضاري، ففي يوغسلافيا كان هناك أكثر من داعش، داعش كاثوليكي وداعش أرثوذوكسي، وكانوا يحرقون الأطفال، وهذا الكلام قبل 10 سنوات أو 15 سنة وليس في القرن الرابع عشر.

القادة العظام
يؤكد دخل الله أن من صنع التاريخ ليس المثقفين، وإنما السياسيون، وخصوصاً القادة العظام الذين ليس لهم علاقة بالثقافة، ولو أن نابليون كان يقرأ الكتب والنظريات الثقافية لما وصل إلى أبواب روسيا، وجمال عبد الناصر كان يخطئ بين الفاعل والمفعول به لكنه كان قائداً سياسياً عظيماً.
مضيفاً: إن الفعل السياسي يذهب بسرعة لكن يبقى الفعل الثقافي، فأنت تذهب إلى غرناطة وتزور قصر الحمراء الذي بناه العرب في الأندلس، وهو مكون ثقافي لا يزال موجوداً، أما الفعل السياسي الذي قام به طارق بن زياد فلم يعد له أثر.
وتساءل: بما أن السياسة تصنع التاريخ أي الواقع، والثقافة تصنع الوجود، فهل الواقع والوجود يتحملان بدائل؟، هل كان من الممكن أن تنتصر جمهورية أفلاطون الثقافية التي كانت تريد أن تتحول إلى دولة وإلى سياسة؟ ولو أنها انتصرت فهل كان لدينا الآن وجود آخر أو واقع آخر غير الذي يعيشه العالم، وهو واقع مزر في كل العالم من شرقه لغربه؟
السلطات الثلاث

وبيّن أن الثقافة هي مفهوم من السهل الممتنع، وفي المفهوم العام تصبح السياسة جزءاً من الثقافة، لأن الثقافة طريقة تفكير ونهج تفكير ونهج حياة، أي ممارسة بعيدة عن التجريد، أي إن المعنى العام للثقافة يستوعب السياسة، لكن المعنى الخاص يناقضها تماماً، لأن المعنى الخاص للثقافة هو التعامل مع نمط من الأفكار والتصورات والمثل التي نعبر عنها عادة عن طريق الشعر والعلم الإنساني والأدب، هنا لا تلتقي الثقافة مع السياسة بل تتناقضان بالتأكيد، لأن السياسة علم السلطة، وكل سلطة تبحث وتكون في الحقيقة نوعاً من أنواع السياسة، والسلطة هي فرض إرادة على إرادة، أي تسييس، فسائس الخيل يفرض إرادته على الخيل الجامح كي يسمع له وكي يصبح مطواعاً له.
وأردف أن السياسيين مجموعة من الناس تحاول تسييس المجتمع كي يصبح مطيعاً عن طريق فرض إرادة على إرادة عبر ثلاثة طرق، إما سلطة قسرية تقوم على سياسة الإجبار والإكراه ومن يخالف يذهب إلى السجن، والسلطة الثانية هي التعويضية بمعنى إذا نفذت إرادتي أعطيك كذا وكذا، أما السلطة الثالثة فهي التلاؤمية وهي السلطة الإقناعية والقبولية التي يفرضها الأب على أبنائه والشيخ على أتباعه، أو الخوري على أتباعه، أو الممثل على جمهوره، لكنها بالنهاية فرض شخصية على مجموعة، وفرض إرادة على إرادة، وأفكار على أفكار أخرى، فعندما نتحدث عن السلطة نبتعد عن الثقافة تماماً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن