ثقافة وفن

تحققت أمنيتها لتنام نومتها الكبرى في سورية … اعتدال رافع رأت أن الحروف قاصرة فالشام ليست لهذا الجيل بل للأجيال القادمة

| سوسن صيداوي

علِمت بأنني أكذب كذبة بيضاء. حدسها القوي حلّل الموجات الصوتية ليعرف حقا بأنني صحفية ولست ما ادعيت. بمواجهتي جلست، بشموخ شجرة- كما ترغب في الطبيعة أن تكون- فارعة، ثابتة، وهادئة لكونها مضت بالعمر طويلاً ومن الماضي هي أعلم الناس وأكثرهم حكمة من التجارب. إنها امرأة براكينها ثائرة. فالأنثى فيها متمردة وأبيّة لا ترضى بالهوان أو الخنوع لسطوة. والأم منها كل الحنان والقلب اللّين والدموع التي لا يمكن منعها من أن تنذرف. في الثقة هي صاحبة الكلمة المسموعة كيف لا وهي أديبة نافست الأديب وانتقدت وسخرت من مجتمع تكبّله وتعيده إلى الوراء أفكار بعادات وتقاليد، إنها الأديبة اعتدال رافع التي استسلمت لنومتها الكبرى وهدأت أساريرها وانطفأ اليأس المؤلم أخيراً الذي سجنه قلبها بعد صراع مع المرض الخبيث، الذي ساكنته غير آبهة للخوف من هوله المرعب لأنه خاطف سنوات العمر، رحلت-عن عمر 81 عاماً- وهي مطمئنة بأن سوريتنا تتعافى.
من حوار «الوطن» الأخير معها في دار السعادة حيث اختارت الإقامة فيها طوعاً، إضافة إلى بعض الآراء والمقتطفات، نقدم لكم وداعنا إلى اعتدال رافع.
في حبها لسورية

في الحوار الأخير تغنّت الكاتبة اعتدال رافع بحبها الكبير للشام العاصمة والكبيرة سورية وأترك لكم ما قالت لأنه أبلغ من أي كلام: «الشام روحي، وكنت قلتها مرة بأنهم عندما يريدون أن يضعوا الانتماء الطائفي على الهوية، يجب أن يكون ديننا هو سورية، فكم أتمنى لو أنهم يلغون الانتساب للأديان وأن يكون انتسابنا للمكان، وهنا أريد أن أشير إلى أن أخي موجود في لبنان ولديه إمكانية أن أعيش عنده، فمنزله مريح والخدمة والاهتمام فيه كبيران، ولكنني أقول دائماً أنا أريد أن أموت في سورية…. الشام تسحرني في كل أوقاتها فلا يمكنني وصف كم أحبها، فالحروف قاصرة عن وصف حبي للشام، فهي تعني لي ليس في هذا الجيل بل في الأجيال القادمة حيث سأعود».
وأشارت الكاتبة اعتدال رافع إلى الإحباط الذي لازمها طوال سنوات الأزمة، داعية المرأة السورية إلى الصبر والتسلّح بالقوة، إيماناً بأن المرأة وطن، وانطلاقاً من حب الكاتبة الكبير لوطنها ولشامها، قائلة: «في كل يوم أقول ستنتهي الحرب على سورية، ولكن للأسف الواقع مؤلم، وأنا أقول هذا على الرغم من أنني أجلس هنا وأنا عنصر لا يقدّم ولا يؤخّر، وأتمنى على المرأة السورية عموماً والأم السورية خصوصاً، أن تعضّ على جرحها وتقاوم كي تعود لنا سورية، وأتمنى أن تعود لنا سورية قبل أن أموت». وللتأكيد على هذا الحب الكبير نجد في تعريف كتابها «الأعمال الكاملة» في جزئه الثاني والصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب، مقطعاً بقلم الكاتبة يصّور عبر مفردات وسطور العاطفة الدفاقة المنسوجة.
يا شام…
ضُميني
شال حرير على صدرك
اذرفيني
صلاة في جوامعك ومزاراتك
كثّفيني
قطرة ياسمين في قاموس عشقك
وزهرة بنفسج في دفتر أحزانك
فأنا يا شام أدمنتُكِ
وامتلأتُ بكِ
حتّى الثُّمالة».

في مطلب مدني مشروع
قضايا المجتمع كانت الشغل الشاغل للكاتبة رافع وهمّ كلمتها، ومما كان يثير نزقها حتى في آخر أيام حياتها، العلاقة بين الرجل والمرأة وتقديسها في عقد الزواج، ولكن وللأسف عبر ما هو مسمى «بعقد نكاح» هنا ركزت وأشارت في الحوار الأخير إلى أهمية الانتباه لتدارك هذا الأمر الخطر الذي هو في حقيقته الكامنة من نتائج الدمار الكارثي لبلدنا الحبيب حيث تقول: «هناك قاعدة في الحياة، الأشخاص يبحثون بشكل دائم عن نصفهم الضائع، فالاثنين ليس لهما غنى عن بعضهما وهذه هي سنة الكون، وأضيف بأن الأنثى التي تعيش بعيداً عن الرجل وتشتم به، هذه ليست بأنثى، وهنا النقطة المهمة، فالأنثى كون كبير وبحاجة إلى قدرة على الاستيعاب والاحتضان. هذا ليس بالأمر الهين، وهل يوجد رجل قادر على احتضانها على المدى الطويل، الأخير غير قادر إلا في لحظات المتعة وبعدها يذهب كل شيء، وقلّة ممن يحتضنون المرأة لأجل فكرها. الرجل يخاف المرأة التي لديها فكر ومستوى من الثقافة والقادرة على مجادلته وتقييم الأمور الصحيحة والخاطئة، على حين أنه يعشق ويحب المرأة «الجارية» وهذا التاريخ من أيام السلاطين وإلى أيامنا هذه. كثيراً ما نسمع يقولون للشاب تزوج فتاة صغيرة كي تطبخ لك وتخدمك وتنجب لك أطفالاً، وهنا لابد لي من الإشارة إلى نقطة مهمة وخطرة بخصوص الزواج، يُكتب على عقد الزواج «عقد نكاح»، كيف لهم أن يمسخوا هذه العلافة الإنسانية القائمة على الحب والتفاهم، كي يتم مسخها إلى أسلوب بشع بين الزوجين، وكنت نشرت حول هذا الموضوع وحول شرعنة العهر، وما وصلنا إليه خلال الأزمة من انتهاكات وأساليب تشوّه الدين وقدسية الزواج، وتستدعي من الجهات المعنية بأن تتخذ الإجراءات اللازمة، ما يتناسب مع فكر ورقي مجتمعنا السوري. وليس هذا فقط فالعلاقة بين الرجل والمرأة علاقة لا يمكن ربطها بورقة أو عادة، فهذه العلاقة مربوطة بالقلبين فهما ناضجان وراشدان، فأنا أعتبر الزواج شركة اقتصادية بالدرجة الأولى».

في أسلوب الكلمة والصياغة
يرى ذوو الاختصاص والنقاد بأن الأديبة اعتدال رافع، تميزت بأسلوبها الذي استطاع أن يفسح لاسمها مجالاً إلى جانب كتّاب النقد الساخر كمحمد الماغوط وزكريا تامر وحسيب كيال، بالسخرية والنقد اللاذع في تصوير المجتمع، من خلال أسلوب برعت فيه في حياكة الشخصيات وتسييرها ضمن وقائع وأحداث القصة من خلال تشويق جاد، أجادت فيه الغوص في عمق المعاناة وتخرج من صلب المشاكل والأزمات، لتبوح في النهاية على الرغم من الصمت العميق في النفوس المتعبة والمثقلة بأنين الجراحات التي يصاب بها المرء عادة بسبب الانصياع للعادات والتقاليد والخنوع إلى سطوة المجتمع.

أسلوبها التصويري
أسلوبها في كل كلمة كتبتها مستنبط من معاناة ومن ألم محبوس في قلبها العليل، وهي تقول بأنها لا ترقب الليل في عتمته وفي ظلمته، أنا لا أعرف عالم الليل… أسهر وحدي مع كتاباتي، ولا أتأمل كثيراً في الليل بعناصره من حيث الظلمة وغيرها من الأمور، لكنني أنظر إلى السماء وإلى النجوم، وأقول كل إنسان خلقه الله له نجمة، وعندما تبكي النجمة ينزل خيط من الضوء منها باتجاه الأسفل، عندها أعرف بأن صاحب النجمة قد مات. وكي أكون صريحة أكثر أنا لا أستمتع بالجمال الخارجي، بسبب البؤس الكائن في داخلي، فمثلاً الكل يتغنّى بالبحر، على حين أنا أقول بحري وأمواجي وبراكيني كلّها في داخلي، وللأسف لم أستمتع بالطبيعة الخارجية، ولكن هذا لا يمنع من أنني أحب الشجر عندما يزهر أو يثمر، وأنا أعشق الشجرة وأتصور دائماً بأنها أمي، وإذا كنت أحب أمراً من الطبيعة، فأنا أحب الشجرة، وأتأمل صمتها، رغم أنها مغروسة في محلها ولا تتحرك، وأتأمل شموخها وصمودها وكيف تتمسك بالأرض، وأتأمل سقوط أوراقها الصفراء، فهذا أمر يؤثر فيّ كثيراً».

في مؤلفاتها
مشروعها الكتابي الروائي الأخير «صديقي السرطان» لم ينته، وفي حوارنا الأخير مع الراحلة باحت لنا بأنها تكتب ولكنه ليس بالشيء الكثير، بعكس ما تقرأ، فنهم القراءة يأخذ من وقتها الكثير، وتقول: «كنت أكتب من فترة، ولكنني اليوم بعيدة عن الكتابة، كنت أستخدم الحاسوب، ولكن منذ أن أتيت إلى الدار (دار السعادة)، وأنا أرى هياكل عظيمة تحيط بي، فلم أعد أكتب في دفتري الموجود هنا بين يدي، فالمشهد المحيط بي دفع باليأس إلى قلبي».
وتجدر الإشارة إلى أنه في لفتة كريمة، قامت الهيئة العامة السورية للكتاب بطباعة جزء من المسيرة الإبداعية للأديبة رافع، بإصدار كامل أعمالها القصصية في كتاب واحد من القطع الكبير، وفي تفصيل لمؤلفاتها:
1- مدينة الإسكندر (قصص) وزارة الثقافة – دمشق 1980.
2- امرأة من برج الحمل (قصص) وزارة الثقافة – دمشق 1986.
3- الصفر (قصص) دار إيبلا – دمشق 1988.
4- بيروت كل المدن شهرزاد كل النساء (مقالات) دار الزاوية 1989.
5- يوم هربت زينب (قصص) وزارة الثقافة – دمشق 1996.
6- رحيل البجع (قصص) وزارة الثقافة – دمشق 1998.
7- أبجدية الذاكرة (قصص) وزارة الثقافة – دمشق 2000.
8- بوح من زمن آخر (قصص) وزارة الثقافة – دمشق 2006.

جدير بالذكر
في اللقب وقبل الاسم حازت اعتدال رافع وبجدارة بأن تكون القاصة، وكاتبة المقالة، والصحفية الساخرة. ولدت في عام 1937 في مدينة «عاليه» بلبنان. اشتغلت في العديد من الأعمال منها:عملت في مجال التعليم، ثم في مديرية الآثار والمتاحف. أما في المجال الصحفي والمقالة فتنقلت بين صحيفة «البعث»، حيث كانت تكتب زاوية «حديث الصباح» (1982-1990)، وصحيفة «تشرين»، حيث كانت تكتب زاوية «آفاق ثقافية»، كما كتبت في مجلة «الأزمنة العربية» (1989- 1991)، وكذلك في جريدة «صوت الكويت» (1990-1991). ويضاف إلى أن الكاتبة انتسبت إلى اتحاد الكتاب العرب في دمشق (جمعية القصة والرواية). أما في حياتها الشخصية فقد تزوجت الأديبة اعتدال رافع من الفنان الكوميدي أنور البابا(1915-1992) وهو من عائلة محافظة، وأكملت تعليمها ودرست في جامعة دمشق وحصلت على الإجازة في التاريخ. وأنجبت ابنتين، واحدة خريجة كلية الآداب فرع اللغة الإنكليزية، والأخرى خريجة كلية الهندسة الميكانيكية وهي في الوقت نفسه فنانة تشكيلية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن