ثقافة وفن

من أجل الآخرين

| د. اسكندر لوقــا

حين ينقلب المزارع النشيط، في بلد ما من بلدان العالم، إلى مجّرد موظف أغراه الجلوس وراء الطاولة، وحين ينقلب الصانع الناجح إلى صاحب بيت من البيوت البلاستيكية في حقله، ينتظر موسم جني المال، وحين ينقلب الفنان المبدع أو الطبيب البارع إلى مجرّد متعهّد بناء هاجسه الربح بأسلوب الغاية تبرر الوسيلة، أي عندما يفقد مجال من مجالات العمل واحدا من رموزه، وبمعنى آخر حين يفقد أحد أفراده وهو قادر على العطاء المتميز في مجال عمله أو اختصاصه، فإن ذلك لا بد أن يقارب حالة تسرّب مياه الشرب من أنبوب مثقوب أو من صنبور مهمل لم يغلق جيداً إن لم نقل عمداً، أو يقارب حالة تسرّب الغاز من جرّة تزداد تشققاً يوماً بعد يوم أمام أعين أصحاب البيت قبل أن تفرغ تماماً ولا يكترثون جهلاً أو تجاهلاً، وبذلك يخسر البلد مقومات نهضته وصموده في آن واحد.
في سياق هذه المقدمة أذكر فكرة قرأتها يوماً وهي أن يكترث المرء بما يخصه فقط يتنافى مع دوره في الحياة لأنه لم يأت من أجل ما يخصه فقط بل أتى من أجل آخرين قد يكونون في أمس الحاجة إليه، ما داموا ودام هو على قيد الحياة. وبمعنى ما، مفيد أن يكون المرء، في موقعه، ذا نفع وأن يتخلى عن نوازعه التي قد تدفعه للخروج من التزاماته تجاه من يكونون بحاجة إليه، في مجال خبرته أو اختصاصه، بغض النظر عن طبيعة الخبرة أو الاختصاص. وبهذا المعنى، تنتفي حجة القول إن الغاية تبرر الوسيلة، وتحديدا حين تكون الغاية العمل من أجل الذات تحت أي ظرف طمعا بمال أو بمكسب.
ولهذه الاعتبارات، يبقى الإنسان الذي يعي دوره في الحياة، ومهما كان قدره، القيمة التي تقيم بمقدار ما تعطي لا بمقدار ما تجني لجهة الذات وعلى حساب هذا الدور.
وفي عصرنا الراهن، ولأسباب قد لا تبدو موضوعية في معظم الأحوال، يزداد الشرخ بين وعي الإنسان دوره وجهله هذا الدور، وكلما ازداد هذا الشرخ اتساعاً، وكانت الـ« أنا» هي الطرف المعني بها، ارتفعت نسبة الخسارة التي يتكبدها البلد، سواء على مستوى الجماعة أم على مستوى الفرد. ومن هنا أهمية أن يؤدي الإنسان دوره في مجال خبرته واختصاصه في الحياة، ويتخطى عامل الربح والخسارة في هذا السياق، فيبقى بذلك المزارع مزارعا والطبيب طبيباً والصانع صانعاً، ويبقى الإنسان صادقاً مع نفسه ومع الآخرين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن