ثقافة وفن

د. نجاح العطار والفن المجنّح بإبداع المبدعين لمسرح قادر وعلى مستوى الطموح في المضمون والشكل يقدم حلولاً وسبل نهوض

| إسماعيل مروة

«الكلام على الفن مثل الكلام على السحر، على السر الذي لا يُدرك كنهه، على الخلود الذي مات جلجامش
دون نبتته العجيبة، النبتة التي أتت عليها أفعى، وهو نائم على حافة بئر، فضاع الخلود قبل أن يتحقق».
هكذا ترى السيدة الدكتورة الأديبة المترفة باللغة والبلاغة والصورة نجاح العطار الفن، فهو أقرب إلى الاستحالة، لأن عمق غوره لا يخضع لعلم، ولأنه سحر لا يُدرك، قد يؤمن به بعضهم ويرفضه آخرون كثر، وهو الخلود الذي أراده جلجامش حسياً مدركاً، وما هو إلا من قبيل الحلم المستحيل.. هذا هو الفن في جوهره، عصي على الفهم، وربما كان عصياً على القبول، وكأنها تريد أن تشير إلى ما نحن فيه، لأننا لم نفهم الفن كما يجب أن نفهمه، فبقي طلسماً لا يدخل أرواحنا، ولغزاً لا يقدر على تغيير ما لدينا من قناعات، ولأن الخلود محال، فقد آثرنا الابتعاد عن البحث فيه وعنه، وسلّمنا برؤية هي الغيب الذي لا يدرك لكنه يسلّي.. هكذا تستهل الدكتورة العطار كتابها التوثيقي الجديد (صفحات من الفن المجنح برؤى المبدعين) وبعد سلسلة من الكتب السابقة التي وثقت مسيرة ربع قرن من السينما والأدب وسواهما جاء هذا الكتاب ليختص بالمسرح والمهرجانات التي نبتت في الأرض السورية.. بعضها غاب نهائياً، بعضها احتجب لغياب الرعاية وتنازعها، وبعضها غاب فرسانه، فآثر الاعتزال..!
دمشق ومهرجانها المسرحي
حاربه حساده ولم يقدروا عليه، وأهلنا عليه التراب دون أن نشعر بتأنيب ضمير، ومن أدرك مهرجان دمشق المسرحي يعرف قيمته، فهذا المهرجان قديم في دمشق، وحمل اسمها، وتسابق إلى المشاركة فيه كل الفنانين العرب، ففي مهرجان دمشق قدم سعد الله ونوس أعماله المهمة التي أخرجها عديدون، وتسابق إليه مسرحيو تونس ومسرحيو الكويت، وكانت الكويت تشهد نهضة مسرحية من أعلامها صقر الرشود، وأسست لحركة مسرحية مهمة قادها زكي طليمات والشرقاوي ومطاوع، وفي مسارح دمشق كانت تتبارى هذه الفرق المسرحية، واستعداداً له تجهز أفضل النصوص، وتقدم على مسارح دمشق أبهى العروض، وقد أشاد الأستاذ الدكتور علي الراعي رحمه الله في كتابه (المسرح في الوطن العربي) بمهرجان دمشق الذي كان أهم مهرجان مسرحي عربي، وكل المدائن كانت تعمل على تقليده.. الذي ساقني للحديث عن هذا المهرجان الغصة من توقفه النهائي اليوم ومنذ زمن، مع أن السيدة العطار عندما كانت وزيرة للثقافة واجهت كل المكائد التي كانت تعمل على نقله من دمشق إلى مدائن أخرى، ولو لم يكن مهرجان دمشق مهماً لما تمت مناقشة نقله على مستوى وزاري في جامعة الدول العربية، وهذا ما نقرؤه في الحادثة الآتية التي توردها الدكتورة العطار في استهلالها:
«ولعل من أطرف الأحداث التي مرت بها مسيرة هذا المهرجان ما جرى في مؤتمر وزراء الثقافة العرب الأول في عمان، إذ كانوا قد اتخذوا قراراً بنقله من دمشق، وتداوله بين العواصم العربية.. وفي الاجتماع كان مقعدي إلى جانب ممثل العراق، وكنا آنذاك على خلاف.. وأراد أن يصوت الوزراء المجتمعون على نقله من دمشق، وتصدى له، وللمفارقة، وزير العراق آنذاك الدكتور طارق عزيز، وقال لماذا تفعلون ذلك بكل عمل ناجح؟ مهرجان دمشق المسرحي معلم ثقافي وحضاري متميز ومتفرد، ويجب أن يبقى في دمشق».
لو لم يكن مهرجان دمشق المسرحي بهذه الأهمية، فهل كانت جلسة التصويت لسرقته ستتم؟!
وتذكر الدكتورة العطار أهمية المهرجان، فبسببه ولد المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق الذي خرّج مبدعينا وفنانينا الذين شكلوا صناعة فنية سورية لم نحسن استغلالها، كما لم نحسن الحفاظ على مهرجان دمشق للفنون المسرحية، ولو بحدوده الدنيا، لأنه الوحيد القادر على خلق بيئة مسرحية لفنانينا، والقادر على جلب الفرق المسرحية لتبادل الخبرات.
وهذا الاستهلال المنطقي ينتهي بنتيجة منطقية «تاريخ مضى، تقولون؟ صحيح، ولكن أهمية كل ذلك تبقى ذكرى للحاضر، تشجع وتؤكد وتفيد في بناء كل ما هو جديد وجميل».
فهل نعود لبناء هذا المهرجان وفق معطيات الحاضر وتقنياته، ولو كان ذلك صعباً، أم إننا سنردد مع جوقة المتشائمين بأن زمن المسرح انتهى؟!
من رحم هذا المهرجان ولد المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، والذي تحول إلى منارة إبداعية سورية وعربية وعالمية من خلال الطاقات التي عمل عليها وعلى تدريبها وتأهيلها لتكون منافسة على مستويات رفيعة من الفن وإتقانه.

المسرح ظاهرة حضارية

لم يكن المهرجان مناسبة استعراضية سورية، ولم يتحول إلى حملات دعائية بقدر ما كان وسيلة لإيصال رسالة الحق والخير والعدل، وذلك من خلال تلاقح الآراء المتعددة والكثيرة التي كانت تجد في مهرجان دمشق المسرحي ميداناً رحباً لها، ومنذ ذلك الوقت المتقدم أدركت الدكتورة العطار بحسّها النقدي العالي، واستشرافها الثقافي الدور المنوط بالمسرح، وشرحته وبينته، بل ربما حذرت من غيابه، وهذا ما يدفعنا للتساؤل عن أسباب غيابه ولو بالحدود الدنيا، وهو الذي يحقق كل هذه الغايات!
«نجعله كدأبنا، رسالة محبة، وسلام، وعدل، ونداء أمة إلى الأمم، في أن يكون السباق في ميدان الحضارة، هو السباق الذي تتجلى فيه روعة الفكر الإنساني العظيم، ونفحة الإشراقة البشرية، إذ هي طموح إلى عيش يعلو على معنى العدوان، ووجود لا اغتصاب لحق فيه، ولا احتلال لأرض الغير، ولا تمييز في العرق أو اللون.. كان مسرح بصرى ساح مهرجان، قل هي الأعراس، من جمالات ورؤى، وقطاف دنيا من الإبداع توافدت رسله، وتواعدت لتتلاقى على مسرح فريد في المسارح، قدماً، وجبروتاً، وصنعة تحار الألباب فيها، ويرتد الطرف مكبراً من دهش وإعجاب».
في الفكر وفي جوهر الفكر الإنساني يعشش المسرح، ورسالته كما توضحها الدكتورة العطار رسالة إنسانية تتجاوز أي حد يمكن أن يتخيله المرء، وهذا جزء من أهميته التي ترسمها.

وللمحبة مهرجانها وموسمها

لعل جيلنا يذكر ولادة هذا المهرجان المميز الذي يعني بصورة أولى وجود فعاليات في المحافظات العديدة من دون الاقتصار على العاصمة المركز، ويعني كذلك الاستفادة من طاقات المناطق السورية كافة، ومن كل الشروط المناخية والبيئية، ويعني بصورة أوسع تحويل سورية إلى مهرجان وعرس ثقافي وحضاري بمناطقها كافة، وفي عموم أوقات العام.. ومهرجان المحبة في اللاذقية من التظاهرات المهمة التي ولدت من أفكار وزارة الثقافة، وحاز سمعة عربية وعالمية، واستضاف أهم الشخصيات العربية والعالمية، وأهم الفرق، واستفاد المهرجان من إمكانيات المنشآت الرياضية التي أنشئت بسبب دورة المتوسط التي استضافتها سورية، وكان على المهرجان ملاحظات لا تصل إلى إيجابية واحدة، منها ما يتعلق بالمشاركات السورية، وتحوّل السوري إلى ضيف على المهرجان الذي أعلى شأن غير السوريين كثيراً، وقد حضرت دورات عديدة من هذا المهرجان الفني، وبجهد شخصي مني إذ لم أدع يوماً بأي صفة، وفجأة تحول هذا المهرجان من وزارة الثقافة إلى الإدارة المحلية لتشرف عليه المحافظة، ومن ثم تلاشى، فخسرت سورية مهرجاناً نوعياً مهماً وغنياً، مع أن المهرجان وجد لأسباب مهمة أوجزتها الدكتورة العطار في الدورة الخامسة منه «مهرجان المحبة مسؤولية، على مستوى تاريخ المدينة وحاضرها، ونمو الحركة الثقافية المتقدمة فيها، وهو يدخل عامه الخامس في هذه الدورة، ومطلوب منا أن نحدد بدقة ما نريد منه، ليكون أيضاً على مستوى مرحلة إنسانية تشهد متغيرات عالمية كثيرة، ومنعطفات خطرة، ويكاد الإجماع العربي والدولي يتوحد في اتفاقه على أن الثقافة هي السلاح الأساس لتغيير عالم يبدو الآن وكأنه أصابه مسّ من جنون، ولإنهاض واقع عربي يتردى يوماً بعد يوم، ويشهد انحساراً في القيم، وانكفاء في النضال، ونكوصاً عن الشيم الرفيعة في كثير من المواقف.. لن نحمّل مهرجاننا أكثر مما يمكن أن يحمل أو يتحمل، ولكننا نريد لكل تظاهرة حضارية في قطرنا، أن يكون لها شأن وشأو، ودور ورسالة ومضامين».
فقد وقفت الدكتورة العطار عند مجموعة من القضايا المهمة وقد قدمتها حسب أهميتها:
– تاريخ المدينة وحضارتها وحاضرها، فهي المدينة التي تعد واحدة من أقدم مدن العالم وأكثرها أهمية، ومن هنا تأتي أهمية أن يكون المهرجان لائقاً بالحضارة والحاضر من أجل الحركة الثقافية.
– تحديد هوية هذا المهرجان الذي من المفترض ألا يشبه المهرجانات الأخرى، وأن يكون محدد الغاية منه، محدد الهوية، محدد في المنطلق والنقطة النهائية، وخاصة تبعاً للمرحلة التي تنعقد فيه دورات هذا المهرجان.
– المهرجان ليس ظاهرة احتفالية، وإنما هو سلاح حسب الإجماع العربي والدولي، ويجب استثمار هذا السلاح الحضاري الذي يعزز قيم الإنسان ونضاله ومبادئه.
– مواجهة ما يواجهه الإنسان من تغوّل عالمي يحاول طمس الهوية.
– معرفة حقيقة دور المهرجان، وعدم تحميله أكثر مما يستطيع أن يحمل من أنه ظاهرة حضارية وإنسانية وثقافية يجب أن تأخذ دورها الحقيقي من دون أن تتنازل عنها.
فالسيدة الوزيرة آنذاك وضعت خطة إستراتيجية لهذا المهرجان ودوره، وقد رأينا أنه لا يشبه غيره من المهرجانات من حيث الفعاليات وتنوعها وتوزعها الجغرافي، وبدل أن نعزز دور هذا المهرجان وأن نصوّب خطواته، وأن نهتم بالسوري أديباً وإنساناً بشكل أفضل، فقد عملنا على طمس هذا المهرجان وتناثرت أوراقه، وكأننا ننتقم من مهرجان مركزي على أنه مشروع شخصي لا مشروع وطن! وبدل أن تعم المهرجانات كل المناطق حسب خصوصياتها ضاع مهرجان المحبة!!

بصرى ومسرح الأبدية

وتأكيداً لأهمية نشر الثقافة بكل أبعادها على مساحات الوطن كانت المهرجانات من دمشق ومهرجانها المسرحي إلى اللاذقية ومهرجان محبتها ومن ثم إلى بصرى ومهرجانها على مسرح التاريخ والحضارة، وتؤكد الدكتورة نجاح العطار ضرورة شمولية المهرجانات والأفراح والأنشطة لتغطي مساحات الوطن كلها، ما يدل على أن الأبعاد السياسية والثقافية كانت موجودة في الذهن عند إحياء مهرجان بصرى المسرحي والفني «في نهضتنا الثقافية الجبارة والرائعة، التي هي جزء من نهضة سورية الحديثة الشاملة، يأتي مهرجان بصرى بمنزلة العرس الثقافي، بل هو عرس الأعراس الثقافية، لأنه يشمل القطر كله، من جنوبه إلى شماله، ومن شرقه إلى غربه.. لقد كان حلماً أن تشاهد جماهير شعبنا العربي في سورية، وضيوفنا من الأقطار العربية وغيرها، الفرق الفنية العالمية، وأن تصل إليها في عواصمها البعيدة، فإذا بمهرجان بصرى الدولي، يحقق هذا الحلم، ويأتي بهذه الفرق إليكم..».
وبذلك استطاع مهرجان بصرى أن يحقق التواصل الثري والغني، العالمي والعربي مع بصرى وجمهور يحتاج أن يتواصل على مساحة الوطن، ويتحقق شعار الثقافة بأنها حاجة عليا، وتؤكد الدكتورة العطار أهمية الثقافة، وأنها ليست ترفاً، وليست هامشية، بل هي الأساس في بناء الإنسان وتحقيق تواصله مع العالم الآخر، سواء كان هذا العالم داخلياً أو عربياً أو عالمياً.
«الفن المجنح» توثيق لمرحلة، وتأكيد لأنشطة كانت تغطي سورية، ونحن بحاجة ماسة لمراجعة هذه الأنشطة والمهرجانات لتشكل رائداً لنا، لننهض من جديد في بناء الثقافة والإنسان، وهو ما تحتاجه سورية في المرحلة المقبلة، بل في مراحل بناء الإنسان، والكل يشهد بأن بناء الإنسان أهم، والثقافة هي الركن الأول من بناء الإنسان، أما الإعمار المادي فله تجاره وعماله وغاياته، وقد تكون من أي جهة في الكون.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن