ثقافة وفن

حي الصالحية في دمشق تاريخ وشواهد وتراث عالمي … سفح قاسيون مدارس كثيرة ومزارات ودكاكين وراقين ومآذن شاهدة

| نبيل تللو

لم يكن حي الصالحية في دمشق إلا ضاحيةً منفصلة بنيت بجوارها في وقتٍ مضى، خلال الفترات التاريخية الزنكية والأيوبية والمملوكية والعثمانية، وتكاملت فيها سُبل الحياة، وكان مدينة صغيرة لعلوم الدين الإسلامي ومنارةً لهديه، وأخرجت العديد من كبار العلماء بمدارسها وجوامعها، وبقيت كذلك حتى اندمجت تدريجياً ـ بحكم الزيادة السكانية والتوسع العمراني ـ وأصبحت حياً من أحياء دمشق الحالية، ومن المتعارف عليه تاريخياً أن حي الصالحية الدمشقي يمتد على سفح جبل قاسيون من بلدتي القابون وبرزة شرقاً إلى الربوة غرباً. وللتعريف بها، قام بعض أعضاء الجمعية الجغرافية السورية برحلة على الأقدام مخترقين طريقها الرئيسي المرصوف بالأحجار البازلتية السوداء التي كانت ممهدة ومستوية منذ زمن، ولكنها غير ذلك حالياً، إذ إن بعضها قد تلاشى وأصبحت الحفر متناثرةً فيه، ويُعرف بـ:«سوق الجمعة» المكتظ بالسكان والباعة والحافلات، الممتد من منطقة ركن الدين شرقاً إلى منطقة العفيف غرباً، وهم يستمعون إلى شرحٍ شفهي من أحد أبنائها العارفين بها، وهو الأستاذ المؤرخ محمود الرفاعي، وشاهدوا أبنيتها الأثرية والحال التي تردَّت إليها. وتعميماً للفائدة، رأيت كتابة هذه المقالة عن هذا الحي، مستمداً معلوماتها مما سمعته منه، ومن مشاهداتي المباشرة، ومن قراءاتي عنها، آملاً أن يتذكَّر كرام القارئات والقراء ما لا يتذكَّرونه، ويتعرفوا إلى ما لا يعرفونه، وكليِّ رجاءٌ وتطلعٌ بأن تنضم أصوات الجميع للمطالبة بإنقاذ ما يمكن إنقاذه وإصلاح ما يمكن إصلاحه.

المقادسة ودمشق

اعتباراً من أواسط القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي، بدأت تبرز في مدينة دمشق أسرةٌ علمية عُرِفَتْ بـ: «آل قدامة» أو: «المقادسة»، وهم جماعةٌ من شيوخ وفلاحي بلدة «جماعيل» وغيرها من القرى المجاورة الواقعة قرب القدس ونابلس في فلسطين؛ كانوا قد هربوا من التعسف الصليبي الذي كان يستغلهم مرغمين بفلاحة الأرض، ونزلوا في مسجد أبي صالح قرب باب شرقي بدمشق، ومن هنا عُرفوا بالصالحين، وكانوا على المذهب الحنبلي، وبسبب إصابتهم بالمرض بسبب إقامتهم قرب الغوطة الشرقية المشهورة برطوبتها، فقد قرروا الانتقال إلى منطقة جافة سعياً للشفاء، ولما كانت مدينة دمشق حين هاجروا إليها أيام نور الدين محمود بن زنكي (511- 569 هـ، 1117 – 1173م) مكتظةٌ بالسكان، فقد اختاروا السكن بسفح جبل قاسيون المطل على دمشق من الشمال، على بُعد نحو ثلاثة كيلومترات من أسوارها، وبدؤوا ببناء البيوت والمساجد والمدارس لتدريس مذهبهم الحنبلي، واجتمع إليهم شيوخه من كلِّ مكان، ولم تمض مئة سنة حتى كانت الصالحية، التي اكتسبت اسمهما من كثرة عدد الصالحين فيها، مدينةٌ صغيرة للعلم حافلة بالعلماء، هي أول مدينة نشأت بعد دخول الإسلام إلى سورية واختصت بتدريس العلم الديني، وضمَّت- في العصرين المملوكي والعثماني ـ عشرات الجوامع والزوايا والخانكات والتكايا والمدارس النشيطة، وأخرجت نحو المئة من كبار العلماء، وفيهم بعض النساء العالمات، واستمر نشاطهم العلمي والديني نحو ثلاثة قرون ونصف القرن، بين أواسط القرن السادس وأوائل القرن العاشر الهجري، وبين منتصف القرن الثالث عشر وأواخر القرن السادس عشر، قبل أن يطرأ عليهم شيء من الخمول.

سفح قاسيون حياة
وكان سفح قاسيون- آنذاك- أرضاً واسعة منحدرة يخترقها نهرا «يزيد» و«تورا» عند ذيولها الأخيرة، وهما فرعان لنهر «بردى»، وتمتد البساتين والخضرة إلى الجنوب منهما، والأرض القاحلة على سفح الجبل الصاعد حتى القمة. وكان أهل دمشق يتباركون بهذا السفح لأن فيه عدداً من الكهوف والمغائر ذات السمعة التاريخية مثل مغارة الدم حيث قتل قابيل أخاه هابيل، والتي تُعرف أيضاً بمغارة الأربعين التي دفِن فيها أربعون نبياً؛ وكهف جبريل حيث تلقى آدم العزاء بابنه هابيل، والذي يُعرف أيضاً بكهف أهل الكهف؛ حسب المعتقد، وقد أقيمت في هذه المواقع بعض المساجد الصغيرة التي ما زال بعضها حتى الآن، أو أُعيد بنائها.
ولم يقتصر إعمار سفح قاسيون على أيادي آل قدامة فحسب، وإن كانوا هم من بنى مدينة العلم التي عُرفت بالصالحية، والعلم في ذاك الوقت يعني علوم الدين، فقد هاجر إلى دمشق الأكراد أيام القائد صلاح الدين الأيوبي بعد مشاركتهم في معركة حطين وفتح بيت المقدس؛ وشكلوا حي الأكراد، الذي صار اسمه حديثاً حي ركن الدين، والجزائريون مع الأمير عبد القادر الجزائري، والأرمن الذين هربوا من المذابح التركية أواخر القرن التاسع عشر، والشركس في مطلع القرن العشرين، الذين نزلوا في «دير مران»، والذين أعطوا منطقة المهاجرين اسمها، وقد ساهم هؤلاء جميعاً في تشييد الأبنية الدينية والسكنية والخدمية في كامل المنطقة.
يُعَدُّ مبنى «المسجد العمري» و«المدرسة العمرية» من أقدم المباني الأثرية التي ما زالت أطلالها قائمة حتى اليوم على نهر يزيد، عند آخر موقف لحافلات «شيخ – ميدان»، أنشأها في عام 580 هـ، 1185 م الشيخ «أبو عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الصالحي (528 – 607 هـ، 1134 – 1211 م)، الذي كان قد هاجر مع والده إلى دمشق قادماً من فلسطين عام 551 هـ، 1127 م، بهدف استيعاب طلبة العِلم الشرعي من قبيل قراءة القرآن الكريم والفقه الإسلامي، وتخرَّج فيها عددٌ من كبار العلماء. يُشار إلى أن لافتةً منصوبة ـ منذ سنوات ـ أمام المدرسة تشير إلى مشروعٍ لترميمها، غير أنه لم يكتمل.

المدارس والمساجد
وبعد ذلك بُنِيَ «جامع الحنابلة»، الذي ما يزال قائماً إلى اليوم غير بعيد عن المسجد والمدرسة العمرية، وكان ثاني أكبر جامع في دمشق بعد الجامع الأموي واتخذ مخططه، وثاني مسجد بدمشق له منبر بعد الجامع الأموي أيضاً، ويحمل أيضاً اسم: «جامع الصالحين»، أو: «جامع الجبل» لملاصقته جبل قاسيون، أو: «الجامع المظفري» نسبة للملك المظفر بن زين الدين صاحب إربل في عهد صلاح الدين الأيوبي، الذي كان قد ساعد ببنائه، وكان قد شُرِعَ ببنائه عام 598 هـ، 1202 م، على نفقة الشيخ: «أحمد الغامي»، وبدأت الصلاة فيه عام 610 هـ، 1213 م، وقد كرَّس هذا الجامع تحوُّل الصالحية إلى بلدٍ عُرِفَ بأنه ذو «منبر». مسجد الحنابلة ما يزال قائماً بحالةٍ جيدة حتى الآن، وتقام فيه الشعائر الدينية بانتظام.
وتتالى في الفترة التالية بناء المدارس والمساجد والأبنية السكنية التي أخذت تمتدُّ على سفح الجبل بشكلٍ عشوائي وغير مخططٍ ومدروس ما زال ذلك يظهر واضحاً حتى الآن، وكانت التعاريج والانحناءات على الجبل هي التي تفرض مخطط المباني، حتى أضحت البقعة في أقل من نصف قرن بلدةً كاملة ذات سكانٍ قدموا من مختلف بلاد الشام والعراق والجزيرة، وكان عددهم نحو 25 ألفاً، بينهم مجموعات من الحرفيين وعمال البناء والخدمات العامة والوراقين والجند، وتشتمل على أسواق، ومساجد ذات مآذن، وزوايا وخانقات (وهي مساجد صغيرة من دون منبر أو مئذنة)، ورباطات وترب ومؤسسات وأفران وحمامات ومعاصر وطواحين وإسطبلات، وحياة عامة واكتفاء بذاتها عن مدينة دمشق، واكتسبت صفة «البركة» و«القُدْسية»، وتنافست في ذلك كله مع المدينة الأم دمشق، قبل أن يتحوَّل هذا النشاط «الصالحي» بمرور السنوات إلى قسمٍ متمم لنشاط دمشق وجزءاً منه.
تميَّزت أبنية الصالحية العامة بكونها كانت خلية علمٍ وعمل، واتسمت بالرحابة والاتساع والأناقة والإطلال الرائع على غوطة دمشق، وقد تتالى ظهورها خلال القرن السادس الهجري وما يليه، الثاني عشر الميلادي، وما زال قائماً منها حتى الآن:
– دار القرآن الدلامية والجامع المتصل بها، وهي اليوم قرب الجسر الأبيض، بناها بعض كبار تجار ذلك الوقت تقليداً لما كان في مدينة دمشق. أما دار القرآن الأسعرتية فقد اندثرت.
– خمس دور للحديث تقليداً لما ظهر منها في مدينة دمشق أيضاً، وهي: دار الحديث الضيائية، وهي حالياً بيت سكني قرب جامع الحنابلة، دار الحديث الأشرفية المقدسية، دار الحديث العالمة، دار الحديث الناصرية. أما دار الحديث النظامية فقد اندثرت.
– المدرسة الماردانية: أنشأتها خاتون زوجة الملك الأيوبي عام 610 هـ، 0000 م وهي اليوم جامع الجسر الأبيض الذي جُدِّدَ بناؤه عام 1980.
– جامع الحاجبية: بناه الأمير ناصر الدين محمد بن مبارك الأينالي عام 872 هـ من الحجر، وأقام بالقرب منه حماماً. وقد اندثر الجامع بزلزالٍ أسقط مئذنته عام 872 هـ، واندثرا تماماً، ثم أعيد بناء الجامع حديثاً ويقع عند موقف حافلات «شيخ – ميدان«.
– جامع الركنية: ويقع في شرقي منطقة الصالحية، حي ركن الدين، ساحة شمدين، وهو في حالةٍ جيدة بعد ترميمه.
– سبع مدارس دينية: الضيائية، الصاحبة، الأتابكية، الجهاركسية (الجركسية)، الشبلية، القاهرية، اليغمورية، وهذه الأسماء نسبةً لمؤسسيها وما تزال قائمة. أما مدارس: البهنسية، المقدمية، المعظمية، الغلمية، الميطورية، اليغمورية، العزيزية، فقد اندثرت.
– البيمارستان القيمري: الذي ما يزال قائماً إلى اليوم بواجهته الرائعة بجوار جامع الشيخ محيي الدين ابن عربي إلى الغرب، وكان مجمعاً صحياً وخدمياً متكاملاً بناه الأمير سيف الدين بن يوسف القيمري المتوفى سنة 654 هـ، 1295 م، الذي أعطى اسمه للحي باسم حي الشيخ قيمر. ومع أن هذا المجمع قد أعيد تجديده قبل سنوات، وصار يؤدي وظائفه السابقة، إلا أنه حالياً مغلق وبحالةٍ سريرية يرثى لها.
ـ التكية السليمية: وهي بناءٌ حجري قرب جامع الشيخ محيي الدين كانت ـ وما زالت ـ تقدم الطعام مجاناً للفقراء في أوقاتٍ محددة على نفقة المحسنين.
– زوايا الصوفية: وهي أماكن صغيرة تستخدم للزهد والعبادة نشأت لتكاثر الفرق الصوفية وتنوعها، وقد بلغ عددها تسع وعشرين زاوية، منها الزاوية الملكية تحت كهف جبريل، الفرنثية، وأعظمها الزاوية الداوودية، التي أنشأها الشيخ أبو بكر بن داوود الصوفي في حدود سنة 800 هـ، 1398 م، وهي ضريحٌ حالياً، وكان لبعض هذه الزوايا أوقاف حيث تقدم الأطعمة للفقراء في بعض أيام الأسبوع وفي رمضان والعيدين. أما زوايا: الدينورية، الأرمورية، الغسولية، فقد اندثرت تماماً.
– الترب: وقد بلغ عددها أكثر من أربعين تربةً ملأت الصالحية قباباً وقبوراً للأمراء والكبراء، إلى جانب قبور العامة، منها ما يزال قائماً حتى اليوم وأهمها التربة التكريتية، وبعضها اندثر.
ـ الخانقانات: وقد أزيلت وأقيم مكانها أبنية سكنية أو في طريقها إلى ذلك.
ـ جامع الشيخ محيي الدين ابن عربي: ويقع في وسط حي الصالحية، سُمِّيَ تكريماً للشيخ المتصوف محيي الدين ابن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي، وهو مدفونٌ فيه، وكان يُعرف أيضاً بالجامع السليمي نسبةً إلى السلطان سليم الأول، وجامع الخنكار أي جامع السلطان، والجامع المحيوي نسبةً للشيخ محيي الدين ابن عربي. كان الجامع في الأصل بناءً صغيراً فيه منبر ومحراب وضريح الشيخ محيي الدين، ولدى وصول السلطان العثماني سليم الأول إلى مدينة دمشق، ولأهمية المكان، فقد أمر بترميمه وتوسيعه، وكان ذلك عام 923 هـ، 1518 م. يتكوَّن الجامع من صحنٍ كبير تتوسطه بركة ماء صغيرة، ويليه رواقٌ كبير مرفوعٌ على أعمدة، ثم يمتد الحرم المسجدي الذي يرتفع سقفه على عددٍ من القناطر والأعمدة، ويتوسطه عند حائطه الجنوبي منبر ومحراب.
يقع ضريح الشيخ محيي الدين داخل غرفة واسعة تحت الأرض في شرقي المسجد، وهي مزخرفة ولها قبة، ويتم النزول إليه بدرجٍ حجري، والضريح مسوَّر بشبكةُ فضية، وإلى جانبه يقع قبرا ولديه عماد الدين وسعد الدين، وقربه يوجد قبر الأمير المجاهد عبد القادر الجزائري (1808 ـ 1883 م)، الذي نُقِلَ رفاته إلى الجزائر عام 1965 م، ولكن بقايا القبر ما زالت، وهناك خمسة قبورٍ لأئمة صالحين. المسجد والضريح مفتوحان للصلاة والزيارة طوال النهار، وهما بحالةٍ جيدة خلاف أبنية الحي المتهالكة، وتشرف عليه بشكلٍ مباشر وزارة الأوقاف السورية.
ـ ناعورة جامع الشيخ محيي الدين ابن عربي: وتقع في الجهة الجنوبية من المسجد ضمن بيتٍ عربي قديم متهالك، وهي دولابٌ خشبي له أحواض تمتلئ بماء نهر يزيد، الذي يرتفع من الأسفل إلى الأعلى بالقوة الذاتية، ويسيل ضمن جدولٍ صغير ليستخدمه سكان منطقة الصالحية في حاجاتهم المختلفة، ويعود تاريخ تشييدها إلى فترة توسعة جامع الشيخ محيي الدين بهدف تأمين الماء لبيمارستان قيمر وجامع الشيخ محيي الدين. بقيت الناعورة تؤدي وظيفتها حتى فترة شح مياه نهر يزيد قبل سنوات، حيث توقَّفت عن العمل، وهي الآن بحالةٍ مزرية.

شواهد علمية
وهناك أيضاً «مسجد أبي النور» الذي كان مصلى صغيراً قديم البناء إلى الشرق من مسجد الشيخ محيي الدين وقرب منطقة ركن الدين، قبل أن يقام بدلاً منه في سبعينيات القرن الماضي «مجمع الشيخ أحمد كفتارو» ذا الطوابق الثمانية، ويضم مسجداً واسعاً وعدة معاهد وكليات جامعية شرعية ومؤسسات تعليمية وخيرية.
وبقرب مسجد أبي النور يقع مسجد الشيخ العارف بالله عبد الغني النابلسي المتوفى عام 1143 هـ، 1730 م، حيث بني المسجد بعد وفاته، وجرى ترميمه، والآن بحالةٍ جيدة.
هذا وصفٌ سريع لحي الصالحية الدمشقي ولبعض مبانيه، تاريخاً وحاضراً، وإذا كان من يتجوَّل فيه يستشعر عبق التاريخ الفوَّاح منه، ويزهو فخراً بمقدرة السابقين على تشييد الأبنية الفخمة ذات الوظائف المختلفة، إلا أنه يتألم بشدة للحال المتردية التي آلت إليها بعض أبنيته، ويعتصر حزناً على الدركِ الأسفل الذي انحدرت إليه بفعل عاديات الزمن وتعديات الإنسان، ما يستوجب تدخلاً سريعاً من الجميع لتفادي الأسوأ، وانتشال ما يمكن انتشاله من أطلالها؛ حتى يتسنَّى للاحقين مشاهدة ما بناه السابقون قبل أن يندثر تماماً، وقبل أن تصبح من الحضارات التي سادت ثم بادت.

من التراث العالمي
وإذا كان السوريون في هذه الأيام يستعدون لمرحلة إعادة إعمار بلدهم بعد حربٍ ظالمة شُنَّت عليهم، فإنَّهم في الوقت ذاته مدعوون للبدء بترميم أبنيتهم التاريخية المتهالكة التي أكل الزمان عليها وشرب، أو التي تدمرت بفعل الحرب، ليس في حي الصالحية فحسب، بل في كلِّ مكان فيه سواءٌ بدمشق أو غيرها من البقاع السورية، وكما نقل السلف الصالح هذه الأبنية إلينا سالمةً معافاة، فإن على أبناء اليوم تسليمها للأجيال القادمة سالمةً معافاة أيضاً.
وإذا كانت مدينة دمشق القديمة، والمقصود هنا دمشق داخل سورها، قد سجَّلتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) عام 1979 في لائحة التراث الثقافي العالمي، مع سبعة مواقع سورية أخرى في سنواتٍ لاحقة، فإننا ندعو كل السلطات الحكومية المعنية: وزارة الثقافة ممثلةً بالمديرية العامة للآثار والمتاحف، وزارة الإدارة المحلية ممثلةً بمحافظة دمشق، وزارة الأوقاف ممثلةً بمديرية أوقاف دمشق، إلى البدء باتخاذ إجراءات عاجلة لتسجيل آثار منطقة الصالحية في دمشق في تلك اللائحة، ما يزيد- بالتأكيد- من فرص حمايتها واستمرار حياتها.
وإذا كنا نطالب السلطات الحكومية بذلك، فإن هذا لا يعفي المجتمع المحلي من القيام بواجبه أيضاً تجاه هذه الآثار، بل إن دوره قد يتفوَّق على دور الجهات العامة، كيف لا وأفراد المجتمع على صلةٍ دائمةٍ بهذه الآثار، وهم الذين استباحوها وسكنوا فيها وبجوارها؛ ومع أن الجميع يكرر هذه العبارة في كلِّ المحافل والأماكن: «لو أن هذه الآثار كانت في مكانٍ آخر فإن معاملتها ستكون بشكلٍ مختلف، وحالها سيكون ـ بالتأكيد – أفضل وأرقى»، إلا أننا لا نرى اتخاذ أي خطواتٍ ملموسة لتصبح آثار الصالحية بشكلٍ مختلف أفضل وأرقى، وعلى الجميع هنا أن يحولوا تلك الأقوال إلى أفعال، حتى يجعلوا من الأمنيات والرجاءات والتطلعات واقعاً ملموساً على الأرض.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن