ثقافة وفن

أصدقائي علماء الآثار … كل من يعتز بالتراث الحضاري الإنساني مهما كان جنسه أو وطنه يجب أن يَعُدّ سورية وطناً ثانياً له

| سارة سلامة

يذكر أندريه بارو مكتشف مملكة (ماري): «أن كل من يعتز بالتراث الحضاري الإنساني مهما كان جنسه أو وطنه يجب أن يعد سورية وطناً ثانياً له، كما ذكر ماكس فون أوبنهايم المنقب الأول في تل حلف «أن سورية هي فردوس الآثاريين»، ففي أي دولة تجد أكثر من 140 بعثة أثرية أجنبية ووطنية تعمل سنوياً في حقل الآثار، كما هو الحال في أنحاء سورية الحبيبة؟ إن «هواية آثار بلادي» استقطبت اهتماماتي الأخرى في محبة الكتابة والسياحة، فكانت رائدي في كل ما قرأت وبحثت، وحيثما ذهبت، طوال نصف القرن من العمر الذي مضى.
حيث صدر عن وزارة الثقافة – الهيئة العامة السورية للكتاب، كتاب بعنوان «أصدقائي علماء الآثار»، للمهندس عبد اللـه حجار، يتحدث فيه عن شغفه بالآثار ولقاءات عدة جمعته بعدد من أبرز علماء الآثار عالمياً، كلها أرخها ووثقها في دراسته هذه وذكر أهم المواقف وألمع الأسماء.
وقال المؤلف في مقدمة الكتاب: «ابتدأ شغفي بالآثار في الخامسة والعشرين من العمر، بلقاء جرى العام 1964 في مدينة الرقة، حيث كنت أعمل، مع عالم الآثار البروفسور أندريه فينيه، أستاذ اللغة الأكادية في الجامعة الحرة في بروكسل «بلجيكا»، كان ذلك إثر محاضرة قدمها جعلت «فيروس الآثار» يتغلغل في دمي، وغذى ذلك الشغف انتسابي إلى جمعية العاديات العام 1970، وكذلك تعرّفي إلى الآباء الفرنسيين إيناس بنيا وبسكال كستلانا وروموالدو فرناندس، المهتمين بالحياة النسكية وآثار الكتلة الكلسية في شمال غربي سورية، ومرافقتي لهم منذ أوائل السبعينات من القرن العشرين في العديد من جولاتهم».
البروفسور
أندريه فينيه (1922- 2007)

كان قدري في التعرف إلى أندريه فينيه عام 1964 في أثناء عملي في مديرية مواصلات الرقة، قدم لنا محاضرة، وهو عائد من زيارة إلى العراق، أرانا فيها نسخة من لوحين مسماريين من متحف بغداد يحملان نظريتي فيثاغورث وتالس مع برهانهما وُجدا في تل الحرمل وتل الضباعي في العراق، ويعودان إلى الألف الثاني قبل الميلاد، على حين عاش العالمان الإغريقيان في القرن الخامس قبل الميلاد، أي سبقنا الغرب بألف عام، وأنهى محاضرته بتوجيه: (ادرسوا تاريخكم)، وخلف ذلك فيّ فيروس الآثار بشكل عميق، ما جعلني لاحقاً أعد أندريه فينيه أبي الروحي، وأذكر أن الدكتور عبد السلام العجيلي كتب عن تلك المحاضرة في زاوية له في مجلة الأسبوع العربي التي كانت تصدر في لبنان آنذاك، وزرت مع الأستاذ فينيه الرصافة لأول مرة العام 1964، وشجعتني تلك الزيارة على إنشاء التسوية الترابية للطريق بطول 25 كم بين قرية الثديين (المنصورة) والرصافة حيث كان الطريق بينهما ترابياً، كما رافقته في زيارة إلى عين العروس وتل أبيض لمشاهدة بعض التلال الأثرية، توثقت أواصر الصداقة بيننا عندما جاء ثانية استجابة لنداء حملة إنقاذ تلال الفرات، واختار التنقيب في تل قناص المجاور لتل حبوبة الذي تعمل فيه البعثة الألمانية بإدارة البروفسور إرنست هاينرش ثم الباحثة إيفا شترومنغر.
وقد تبين فيما بعد أن المعبدين المكتشفين لديه في تل قناص يعودان إلى الألفين الثالث والرابع قبل الميلاد، وهما جزء من أكروبول (مرتفع) المدينة (حبوبة الجنوبية) التي تنقب فيها البعثة الألمانية.

عالم الآثار
جورج سميث (1840- 1876)
يذكر عالم الآثار ماكس ملوان في مذكراته أنه لما استأجر داراً للعمل في حفريات نينوى (تل قوينجق) قرب الموصل كان مالك الدار رجلاً مسناً تجاوز التسعين من العمر يدعى داود الساعاتي، وقد وصف لنا رجلاً قصيراً يلبس ثياباً سوداء أقام في خان «رسام» في الموصل، وكان يسير يومياً من الموصل إلى تل نينوى لينقب فيه مع 800 عامل، كان الرجل هو جورج سميث الذي كشف عام 1873 لوح الوطفان الشهير، (وكم كان ممتعاً أن أتكلم مع شاهد عيان لجورج سميث)، ويتابع ملوان: (لم يكن ذلك الاتصال الوحيد مع ذكرى سميث، فلما كنت في حلب جاءني القنصل البريطاني ليذكر أن قبر جورج سميث الموجود في مقبرة العبارة سوف يهدم ويزال قبل 31 آذار 1939 وسألني المساعدة في نقله، وهذا ما فعلت، وأخذ ألفورد كارلتون من البعثة الأميركية بحلب على عاتقه مسؤولية نقل رفات سميث وتعهد مجلس أمناء المتحف البريطاني بدفع مبلغ 100 جنيه، ووضع الحجر التذكاري فوق القبر ثانية، بعد عدة سنوات نلت مكافأتي عندما هتف لي رولان سميث، وكان أحد جيراننا في ديفونشاير يسألني إذا كنت سمعت عن جده جورج سميث فأجبته بسرور: «لم أسمع عنه فقط بل حضرت إعادة دفنه»، ويحوي السجل الذهبي لدار بوخه في خان النحاسين كتابة كلمة صغيرة مع توقيع للكاتبة الروائية أغاثا كريستي زوجة ماكس ملوان تذكر سهرتها في الدار، في ذكرى أمسية ساحرة بتاريخ 28 أيار 1937، من الأمور غير المعروفة أن جورج سميث في أثناء مروره بحلب بتاريخ 31 آذار 1876 نسخ الكتابة الهيروغليفية الحثية الموجودة في جدار جامع القيقان في حي العقبة قرب باب أنطاكية، وأدلى بدلوه في قراءتها، وكانت هناك كتابة أخرى مماثلة قرب عتبة دار قريبة اختفى أثرها، كما كان سميث من أوائل الذين زاروا التل الأثري في كركميش.

البروفسور جورجيو بوتشيلاتي
كان لقائي الأول مع البروفسور بوتشيلاتي في ترقا العام 1978 عندما زرته برفقة ثلاثة من كبار المستشرقين الأرمن من جمهورية أرمينيا السوفيتية، زاروا كنيسة شهداء الأرمن في دير الزور، وفي الطريق إلى دورا أوروبوس وماري توقفنا في تل العشارة «ترقا» حيث شرح لنا بوتشيلاتي، وهو رئيس البعثة منذ عام 1976، أعمال التنقيب واللقى المكتشفة، كما أطلعنا على طرق التسجيل الحديثة والوثائق المحفوظة في الكمبيوتر الذي لم يكن مألوفاً آنذاك في سورية، وأخذنا صورة تذكارية معه وزوجته.
كانت فرحتي كبرى بمشاهدة اكتشاف لوحة مسمارية في مكانها صورتها مع بوتشيلاتي وإحدى طالباته، ومن غريب المصادفة أنني كنت مرة أعرض تلك الصورة مع سلايدات أخرى عن حضارة سورية في منزلي أمام مجموعة سياحية كانت تزورنا، وإذ بسيدة تصرخ وهي تشاهد تلك الصورة من ترقا «يا إلهي، إنها ابنتي».
ويذكر أن عبد اللـه حجار هو مهندس مدني تخرج في جامعة حلب عام 1963 وعمل ثلاثين عاماً موظفاً في مجال الطرق والجسور، ثم تابع مهندساً مدنياً استشارياً حتى تقاعده في 2/ 12/2012، وحاصل على دبلوم آثار من معهد التراث في جامعة حلب العام 1988.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن