ثقافة وفن

اليوم العالمي للترجمة.. المسار السوري … المعارف الإنسانية من لغة إلى أخرى لتقريب الحضارات وزيادة التبادل بين الشعوب وأفكارها

| نبيل تللو

يحتفل العالم في الثلاثين من شهر أيلول سنوياً منذ عام 1991 بـ: «اليوم العالمي للترجمة» بناءً على اقتراح «الاتحاد الدولي للمترجمين»، تزامناً مع العيد الديني للقديس «جيروم» ، المولود عام 347 م في منطقة دالماسيا الممتدة شمال شرق البحر الأدرياتيكي، ضمن أراضي جمهورية كرواتيا حالياً، والمتوفى عام 420 م في بيت لحم بفلسطين، وهو أحد لاهوتيي الكنيسة النصرانية في عهودها الأولى، درس النحو وعلم البيان والبلاغة، إضافة إلى الفنون العقلية والثقافيةً واللغوية في روما، سافر إلى فلسطين عام 370، ثم عاد إلى روما عام 382، حيث أصبح سكرتيراً للبابا داماسوس الأول، ثم ترك روما بعد وفاته عام 384، وعاد إلى فلسطين ليستقر في بيت لحم، وليمضيَ سنوات عمره في الأقبية والمغارات تحت كنيسة المهد التي بُنيت عام 335 فوق المكان الذي يُعتقد بأن السيد المسيح وُلِدَ فيها، حيث قام بترجمة الكتاب المقدس ـ لأول مرة ـ من اللغة العبرية إلى اللغة اللاتينية، معتمداً في ترجمته على نقل المعاني، ومبتعداً عن الترجمة الحَرفية؛ بهدف أداء الترجمة أداء دقيقاً، وبقيت هذه الترجمة هي المعتمدة في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية سنواتٍ طويلة، ما يعطي صورة واضحة عن أهمية وحجم العمل الذي قام به.
الاتحاد الدولي للمترجمين يضم جميع جمعيات المترجمين حول العالم، تأسس في باريس بهدف تعزيز الكفاءة المهنية للمترجمين والدفاع عن حقوقهم، مقره الحالي في مونتريال بكندا.

الترجمة والحضارة
وقد رأيت في هذه المناسبة أن أعيد إلقاء الضوء على الترجمة وأهميتها واستعراضٍ سريع لتاريخها، آملاً أن يتذكر كرام القارئات والقراء ما لا يتذكرونه، وأن يتعرفوا على ما لا يعرفونه.
وفي الحقيقة فإن الاحتفال باليوم العالمي للترجمة هو تقليدٌ حضاري كبير ونبيل يأتي اعترافاً بالدور الكبير الذي تؤديه الترجمة في مدِّ الجسور بين الشعوب المختلفة الألسن، وتقريب العقول والقلوب والوجدان، فهي عملية نقلٍ للمعارف الإنسانية من لغةٍ إلى لغةٍ أخرى، وتتطلب استيعاب المترجم رسالة اللغة المنقول منها، ومن ثم إعادة إنتاجها في اللغة المنقول إليها، وهنا يكون المترجم وسيطاً بين طرفين مشاركين في عملية الاتصال يجهل كلٌّ منهما لغة الآخر، ويؤدي دوراً مزدوجاً، فهو من جهة متلقٍ للنص الأصلي، ومن جهةٍ أخرى مرسل للنص الهدف.
وليست الترجمة وليدة العصر الحديث، فهي تُعَدُّ واحدةً من أقدم نشاطات الإنسان، فقد تزامن ظهورها مع شعور الإنسان بالحاجة الماسة للتواصل والتفاهم مع الشعوب الناطقة بلغاتٍ مختلفة، ومع أنه من العسير تحديد بداياتها التاريخية، إلا أن الترجمة الشفهية ظهرت قبل الترجمة الكتابية، وقد أسهمت الترجمة، ولا تزال، إسهاماً مهماً في دفع عجلة التطور على مدى السنين، فقد تسنَّى عن طريقها للشعوب القريبة من بعضها والمتباعدة التعرف إلى حضارات وثقافات وتاريخ وعلوم كلٍّ منها.
يُعَدُّ الرومان من أوائل الشعوب التي اهتمت بالترجمة، وكان لانتشار المسيحية وترجمة الكتاب المقدس أثر مهم في دفع عجلة تطور الفكر الترجمي. وشهدت العصور الوسطى نشاطاً ملحوظاً في حركة الترجمة، ومع حلول القرن الثاني عشر تُرجمت في إسبانيا الكثير من المؤلفات العربية إلى اللاتينية.

أنماط الترجمة
يعتمد العالم منذ القِدَمِ حتى الآن على أسلوبين في الترجمة، الأول منهما يشدِّد على أهمية الالتزام حَرفياً في نقل ما يُراد نقله، على حين يتيح الثاني للمترجم حرية في النقل، وهذان الأسلوبان ما زالا أساساً تعتمد عليه أساليب الترجمة المختلفة التي تطورت على مدى الزمن، ولكلٍّ من هذين الأسلوبين مؤيدون يدافعون عنه، ومناهضون يسعون جاهدين لتسليط الضوء على عيوبه ونواقصه.
ولقد أطلق على العصر الذي نعيشه تسمياتٌ عديدة، ومنها أنه عصر الترجمة، فالعالم يشهد كماً هائلاً من الترجمات التي قام بها عددٌ كبير من المترجمين، فكان أن نجم عن ذلك اتساع دائرة الاتصال بين شعوب العالم، حتى قيل إن العالم قد أصبح قريةً صغيرة، وتعدَّدَت أشكال الاتصالات، ومنها الرسمية والعسكرية والسياحية والإعلامية والثقافية والتجارية والجمركية وغيرها من الاتصالات التي جعلت من الترجمة حاجة ماسة لا يمكن إغفالها أو تجاهلها، وظهرت أشكالٌ جديدة من الترجمة لم تكن معروفة سابقاً كالترجمة الفورية والترجمة الآلية.
كما تمخَّض عن قطع العالم أشواطاً واسعة في ميادين العلوم والتقنية، بروز كم ضخم من المعلومات التي يستحيل حصرها ضمن إقليم واحد، فنشطت حركة وضع المعاجم نشاطاً كبيراً، على اعتبار أن المعجم إحدى أهم أدوات المترجم، فظهرت المعاجم العامة والمتخصصة التي ضاقت بها رفوف المكتبات العامة والخاصة.

الترجمة عند العرب
نُقِلَ في القرن السابع للميلاد وما بعده الكثير من التراث العلمي للفرس والهنود والروم والإغريق إلى اللغة العربية، واهتم العرب بعد استقرار الإسلام في البلدان التي فتحوها، والتي تمتد من الهند والصين شرقاً إلى جنوب فرنسا غرباً، بتعلم لغاتها ونقلوا الكثير من معارفها إلى لغتهم، واستمرت الترجمة أيام الأمويين، وازدهرت في أيام العباسيين، فنشطت في عهد المأمون الترجمة من اليونانية والفارسية والسريانية والسنسكريتية، وتُرجمت مؤلفاتٌ عدة في مجال الرياضيات والفلك والطب والفلسفة والآداب. ثم ضعفت حركة الترجمة بعد سقوط بغداد بيد هولاكو، على حين ازدهرت في الأندلس، حيث دخلت الثقافة العربية إلى أوروبا عبر بوابتها، ونشطت الترجمة من العربية وإليها، لتعود وتذبل في أثناء الاحتلال العثماني لبلادنا العربية، لتنهض من جديد مع بدايات الاستقلال منذ عشرينيات القرن الماضي، فتُرجمت عشرات الكتب من الآداب العالمية والعلوم والفنون والسياسة على أيدي مترجمين عرب.
ودخلت الترجمة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية منذ ستينيات القرن العشرين مجالاً رحباً واسعاً من خلال إصدار ترجماتٍ لدورياتٍ أجنبية بكاملها، أو ترجمةٍ لمقالاتٍ محددة منها تتناول مختلف العلوم والمعارف الإنسانية، أو إصدار مجلاتٍ تُعنى بشؤون الترجمة، وما شجَّع على هذا النهج هو أن الدوريات تنشر أحدث ما توصَّل إليه الفكر الإنساني أول بأول، وسهولة الوصول إليها مقارنةً بالكتاب، على حين أن الكتاب يأخذ وقتاً أطول في ترجمته وطباعته ونشره وتوزيعه، ومنها على سبيل المثال لا الحصر مجلة «الثقافة العالمية» التي تنشر مقالاتٍ مترجمة من مختلف الدوريات، وهي تصدر كلَّ شهرين في الكويت، على حين تصدر مجلة «ناشيونال جيوغرافيك العربية» عن مؤسسة أبو ظبي للإعلام بدولة الإمارات العربية المتحدة شهرياً، وهي مترجمة بكاملها عن مجلة «ناشيونال جيوغرافيك» الإنكليزية الصادرة في العاصمة الأميركية واشنطن عن الجمعية الجغرافية الوطنية. كما اتخذت الترجمة أشكالاً أخرى، ومنها الدبلجة من لغةٍ أجنبية إلى اللغة العربية، أو تدوين الترجمة في أسفل الشاشة، أو ترجمة مواد قناة فضائية بكاملها كما هي الحال في قناة «ناشيونال جيوغرافيك أبو ظبي» التي تترجم كل ما تعرضه عن قناة «ناشيونال جيوغرافيك الإنكليزية».

جهود سورية في الترجمة
لم تقف سورية موقف المتفرج على الكمِّ الهائل من الكتب المختلفة الاختصاصات بلغاتٍ مختلفة التي تصدر على مدار الأعوام، فسمحت بترجمتها إلى اللغة العربية منذ بدايات الاستقلال، وكان أن تعدَّدت الجهات الرسمية والشعبية في وقتنا الحالي التي تُعنى بالترجمة، ومنها: الجامعات السورية، اتحاد الكتاب العرب، دور النشر الخاصة السورية، مراكز الأبحاث والدراسات واستطلاعات الرأي مثل: مركز دمشق للدراسات والأبحاث (مداد)، ويأتي في مقدمتها وزارة الثقافة منذ بدايات تأسيسها، التي كان يتبع لها «مديرية المطبوعات والنشر والتأليف والترجمة» قبل أن يتم بموجب القانون رقم 8 تاريخ 19 شباط 2006 إحداث: «الهيئة العامة السورية للكتاب» التي من مهامها تشجيع وتطوير حركة الكتاب ترجمة وتأليفاً وتحقيقاً ونشراً وتوزيعاً، في مختلف مجالات المعرفة والثقافة والعلوم، ووضع خططٍ ومشاريع بعيدة المدى لترجمة أهم ما أنتجه الفكر الإنساني قديماً وحديثاً إلى اللغة العربية ونشرها، ومنح الجوائز التقديرية والمالية للمبدعين في مجالات الترجمة والتأليف والتحقيق وطباعة الكتاب. كما حدَّد القانون مهام مجلس الإدارة ومنها إقرار مشاريع الترجمة والتأليف وتحقيق التراث.
وتحقيقاً لهذه المهام المكلفة بها الهيئة العامة السورية للكتاب، فقد قامت مديرية الترجمة في عام 2018 بإعداد: «المشروع الوطني للترجمة» الذي هو عملية مستمرة تتبلور بخطة تنفيذية كل سنة وفقاً للمعطيات الواقعية، غايته ترجمة مخزونات المعرفة الإنسانية في الأدب والفن والفكر والعلوم الطبيعية والصحة العامة، من خلال الاعتماد على الكفاءات الوطنية في حقل الترجمة، وتنمية حركة الترجمة عن طريق إعداد المترجمين وتدريبهم وتطوير قدراتهم لتكوين أجيال جديدة تكتسب الخبرة من خلال الدورات التدريبية وورش العمل بالتعاون مع المؤسسات والهيئات المعنية، والإعلان عن جوائز الترجمة التشجيعية: «جائزة سامي الدروبي» و«جائزة الشباب للترجمة» (حتى 35 سنة) و«جائزة الترجمة العلمية». كما يتضمَّن المشروع إنشاء قاعدة بيانات خاصة به.
تتلخَّص أهداف المشروع الوطني للترجمة بما يلي:
الابتعاد عن العفوية والارتجال في الترجمة، إذ ينبغي أن نعرف ما يجب أن نترجم تلبيةً لحاجة مؤسساتنا العامة الوطنية التربوية والعلمية والاقتصادية والإدارية من الكتب المترجمة، من جهة، وحاجة الطالب والباحث والقارئ العام من كتب الأدب والفن والعلوم الإنسانية والهندسية والطبية.
العمل مع الجهات المعنية بالترجمة على بلورة خطة ترجمة وطنية سنوية للعام الحالي والأعوام القادمة، لتلافي الترجمة المزدوجة لمؤلَّفٍ واحد.
العمل مع الجهات المعنية بالترجمة على إعداد المترجمين في مختلف اللغات الحيَّة المعاصرة.
دعم النشر الورقي المترجم بنشره إلكترونياً أيضاً، لإيصال المعرفة إلى أكبر شريحةٍ من قراء العربية في مختلف أنحاء العالم.
تنظيم ورشات عمل وندوات متعلقة بالترجمة، وبالتعاون مع المنظمات العربية والدولية إن أمكن.
وتحقيقاً لهذه الأهداف، فقد تمَّ تشكيل لجنة لوضع خطة تنفيذية للمشروع الوطني للترجمة بقرارٍ من السيد وزير الثقافة، ضمت عدداً من خبراء الترجمة في سورية، ولاحظت بعد اجتماعاتٍ متتالية، وبالاستعانة بنخبةٍ من المترجمين ذوي الخبرة، ما يلي:
تتوافر ميزانية لترجمة نحو خمسين كتاباً لعام 2018.
لا توجد كتب تلبي حاجة الترجمة في مكتبات القطر، وعدم القدرة على الوصول إلى الأسواق الدولية إلا بصعوباتٍ بالغة.
لا يوجد مترجمون من كثيرٍ من لغات العالم الحيَّة، والاضطرار إلى الترجمة عبر لغاتٍ وسيطة مثل الروسية والإنكليزية والفرنسية.
ضرورة التوجه شرقاً لترجمة آداب وثقافات وعلوم شعوب شرق آسيا ذات الثقافة العريقة، لتعريف القارئ العربي بأهميتها ومكانتها.
الاعتماد على ما يمكن الحصول عليه من نسخٍ إلكترونية، وعلى ما قدمته بعض دور نشرٍ روسية من أعمال مختلفة مع حصر ترجمتها ونشرها في الهيئة العامة السورية للكتاب، وعلى ما يقدمه المترجمون من كتبٍ تتوافق مع موضوعات الخطة.
لن تستطيع الهيئة، بسبب ظروف العقوبات الاقتصادية والحصار المفروض على الدولة السورية، أن تبرم العقود التقليدية مع دور النشر أو المؤلفين أصحاب الحقوق بالكتب المطلوب ترجمتها بموجب الخطة.
إجماع أعضاء الخطة على أن تكون الكتب المترجمة ذات محتوى ثقافي ومعرفي تقدمي، وأن تنتمي إلى لغات ومدارس فكرية وأدبية مختلفة.
وبناءً على ذلك، أقرت اللجنة ترجمة خمسةٍ وستين كتاباً باللغات الإنكليزية والفرنسية والروسية، ومن المتوقع صدورها تباعاً خلال العام الحالي والقادم. الكتب المقترح ترجمتها ذات مواضيع مختلفة، غير أن أكثر ما يميزها هو أن أغلبيتها ذات مواضيع أدبية وسياسية واجتماعية، على حين أن الكتب ذات الاتجاه العلمي قليلة ولم تتجاوز الثلاثة وهي: البيئة وصحة الإنسان، الكون، فلسفة التكنولوجيا، ولعلَّ سبب ذلك يعود لقلة توافر الكتاب العلمي في مكتباتنا ومراكز بيع الكتب.
وكلنا أملٌ ورجاء أن تتمكن الهيئة العامة السورية للكتاب من تنفيذ خطتها للترجمة، حتى يتمكن القارئ السوري والعربي من الاطلاع على أحدث ما تصدره دور النشر العالمية من الإنتاج الفكري والمعرفي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن