قضايا وآراء

ما بين العلمانية والتدين

| د. بسام أبو عبدالله

فجر «المرسوم 16» الخاص بوزارة الأوقاف ردود أفعال واسعة خلال الفترة الماضية هدأت قليلاً بعد أن تبين أن كثيرين ممن تلحفوا بغطاء العلمانية لم يقرؤوا المرسوم أساساً فكانت انتقاداتهم كما تبين لي ليست مبنية على قراءة دقيقة وعلمية، وموضوعية للمرسوم بدليل أن أياً منهم لم يناقش بمواد المرسوم، ليقدم حلولاً، وبدائل، ولم يطرح آخرون سوى شعارات فارغة باسم العلمانية دون إدراك للأهداف الحقيقية وراء إصداره.
ولأن «الطوشة» التي حدثت على مواقع التواصل الاجتماعي انطلقت، وانتشرت باسم الحرص على علمانية الدولة، والغيرة عليها، وعلى استمراريتها، فإن سؤالاً جوهرياً يرتبط بتعريف المصطلح يجب أن يطرح علينا جميعاً: ما العلمانية؟ وهل العلمانية ضد الدين بمعنى أن كل علماني يجب أن يكون ملحداً، أو هو ملحد أوتوماتيكياً ما دام يعلن علمانيته، أو يطالب بالعلمانية؟
الحقيقة أن مراجعة سريعة لنشوء العلمانية تأخذنا إلى فرنسا التي تبنت عام 1905 المصادقة على قانون الفصل بين الكنيسة والدولة، ولكن الفرنسيين أضافوا لمواد دستورهم في عام 1958 ما يعطي المواطنين الحق في حرية المعتقد، ومن يراجع تلك الفترة التاريخية مما عرف بـعصر النهضة يتبين له أن سبب ظهور هذا المبدأ هو النفوذ الكنسي الذي كان يسيطر على مفاصل الحياة الاجتماعية، والسياسية في أوروبا، ولكن تطبيق العلمانية كان يعني لدى، أصحاب العلمانية نفسها، أمرين أساسيين:
الأول: التمييز في حياة المواطنين بين مجالين أساسيين هما المجال العام الذي يهدف لخدمة المجتمع دون تمييز، وتفرقة بين الأديان والمعتقدات أي الخدمات الأساسية والحقوق الأساسية، وبين المجال الخاص حيث تستوعب الدولة جميع الأديان والمعتقدات، والإيديولوجيات، والتوجهات التي يؤمن بها المواطن سواء أكان متديناً أم ملحداً.
الثاني: ضمان الدولة العلمانية المساواة الكاملة بين جميع المواطنين حيث إنها لا تفرق بين مواطن متدين، أو غير متدين، وتدافع عن حريتهم الكاملة، ولا تفرق بين اتجاهاتهم العقائدية.
وبالتالي انطلاقاً من هذا الفهم المختصر لمصطلح العلمانية فإن الدولة السورية حينما أصدرت المرسوم الخاص بتنظيم عمل وزارة الأوقاف فإنها أرادت بذلك أن تحافظ على حريات المتدينين وحقهم في ممارسة عباداتهم، ونشاطاتهم، وشعائرهم باعتبار أن الدولة العلمانية يجب أن تستوعب جميع الأديان والمعتقدات، والتوجهات وتؤمن لها حرية العبادة، والمعتقد تحت ناظريها.
إن الإشكالية الأساسية لدى العلمانيين تكمن في أنهم حينما استوردوا هذا المفهوم الأوروبي أساساً تعاملوا مع الدين كموضوع سلبي دون أي تعريف، أو توضيح لعلاقة العلمانية بالدين لا بل إن البعض منهم حاول طمس الهوية الدينية، وازدرائها من خلال ممارساته الأمر الذي جعل عامة الناس تعتقد أن العلمانية سوف تلغي هويته، ووجوده، ما دفع «جماعة الإخوان المسلمين» الإجرامية لاستغلال هذا الالتباس النظري والعملي، لاتهام كل علماني أنه ملحد، وأنه ضد الدين، لتتمكن هذه الجماعة من اختراق، وتجنيد الآلاف من المتدينين على أساس أنهم يقاتلون ضد الإلحاد، وقد حصل هذا في تاريخ سورية ثلاث مرات في ستينيات، وأواخر سبعينيات القرن الماضي، وخلال الحرب الفاشية التي ما تزال مستمرة حتى الآن، واستخدم فيها الدين كواجهة، وعنوان أساسي، وتسللت عبر نفس المنفذ «الإخوان المسلمين» مرة أخرى، دون أن نتعلم إيجاد حل لهذه المسألة حول علاقة العلمانية والدين ونشر ذلك على صعيد المواطنين العاديين، والبسطاء لإفهامهم أن الدولة هي المظلة للجميع، وأن استغلال الدين في السياسة هو أمر مدان وفيه نفاق ودجل، وتضليل، وأن دور الدولة هو حماية وتأمين حريات الناس في الاعتقاد، سواء أكان متديناً، أم غير متدين.
بهذا المعنى فإن نشوء العلمانية جاء كطوق نجاة للأوروبيين من تسلط الكنيسة، ولكن السوريين كانوا أكثر إبداعاً في ذلك حينما اختصروا الأمر بعبارة نحفظها جميعاً «الدين لله والوطن للجميع»، وكان التكامل، والتعاضد بين أبناء الشعب العربي السوري على اختلاف أديانهم، ومعتقداتهم، وأطيافهم نموذجاً يُضرب المثل به في كل أنحاء العالم، ألسنا من يتذكر دائماً فارس الخوري حينما دخل الجامع الأموي ونطق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، تعبيراً عن رفض مساومات المحتل الفرنسي بشأن ما يسمونه «حقوق الأقليات»، أو محاولات استعداء طرف سوري على طرف آخر باسم الدين، فكيف كان أجدادنا أكثر عراقة وفهماً لهذه المسألة منا الآن بالرغم من أنني أعتقد أن المجتمع السوري كان أكثر محافظة آنذاك، وأما اللقطة الأخرى فهي أن من قاد الثورة السورية الكبرى في عشرينيات القرن الماضي هو سلطان باشا الأطرش، ولم يقل أي من السوريين لماذا هو القائد؟ وليس غيره مثلاً!
ما أريد قوله إنه لابد للأحزاب القومية والعلمانية عامة، أن تضع هذا الفهم النظري بوضوح شديد أمام الناس، والمجتمع وتشرحه لهم كي تنهي هذا الالتباس التاريخي، والنظرة السلبية للدين والمتدينين، لأن العلمانية لدى آبائها المؤسسين لم تكن معادية للدين إنما حاولت أن تعقلن تغول الكنيسة آنذاك في كل مفاصل الحياة العامة، وهو أمر لا يتشابه كثيراً مع الدور الذي لعبته المؤسسة الدينية عبر تاريخ سورية لأن مواقفها غالباً كانت مواقف وطنية، ومشرفة، فهل يمكن أن ننسى مثلاً دور الشيخ صالح العلي في النضال ضد الفرنسيين، ودور الكثير من الشخصيات الدينية في تاريخنا المعاصر، أو دور الشيخ عمر المختار في النضال ضد الاستعمار الإيطالي، والأمثلة تطول وتطول.
إن الغاية التي تجمعنا هي الإخلاص والمحبة للوطن، ولشعبنا ولمستقبل أبنائنا، ولا أعتقد أن أي مواطن سوري يدقق في شخصية المسؤول السوري إن كان علمانياً أم متديناً، إنما يدقق في سلوكه، وأخلاقه، ونزاهته، وخدمته لشعبه، والبصمة التي يتركها على الصعيد الوطني، تلك هي المعادلة الذهبية، أما اختراع أعداء وهميين تحت لافتة العلمانية والتدين فأعتقد أنها ليست مصلحة وطنية، إنما هو سلوك يخدم أعداء سورية، لأن ما يجب أن نعمل عليه ونركز عليه هو تعزيز اللحمة الوطنية، والانسجام في المجتمع، والتقليل من «هزات البدن» التي يتحفنا بها أبطال الفيسبوك بين الفترة والأخرى، وكلامي هذا لا يعني أبداً الانتقاص من حق أي مواطن سوري في النقد البنّاء، والحوار الجاد المسؤول، والراقي، والحضاري إذ إنني لا أشك للحظة واحدة أن غاية، وهدف الرئيس بشار الأسد دائماً هي نبيلة، وواجبنا جميعاً أن نقف خلف هذا القائد الكبير في هذه المرحلة الحساسة والتاريخية التي يمر بها بلدنا، ولكن الوقوف معه، ودعمه يكون بالعقول والإبداع، وتقديم الأفكار الجديدة، والعمل الجاد المسؤول وليس عبر «غوغائية» تنتحل صفة «المؤيد» وهي من حيث تدري أو لا تدري تخدم أعداء الوطن.
أخيراً أقول: بالتأكيد هناك من يخطئ في الوسط المتدين، أو في الوسط العلماني، وأي خطأ سيصدح فوراً، ولا يجوز أن يسمح بعد الآن للراغبين في النجومية عبر الفيسبوك أن يهزوا الرأي العام السوري بالإثارة التي يطرحونها، فيشغلون الرأي العام ويشغلون الدولة بطعمة وبلا طعمة، فالعلمانية والتدين لهما ساحة، وحرية للعمل والهدف رفعة سورية وتقدمها وقوتها، وليس العكس أبداً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن