ثقافة وفن

لوحة حيدر يازجي مثال حاضر للواقعية التعبيرية وفيها تجاور بصريّ صادم يبهرنا

| سارة سلامة

خص الكتاب الشهري لليافعة والصادر عن وزارة الثقافة الهيئة العامة للكتاب وضمن سلسلة «أعلام ومبدعون» الخامسة والثلاثين الفنان التشكيلي المبدع حيدر يازجي، بالشرح مطولاً عن سيرة حياته ونشأته منذ الصغر إلى أن لمع اسمه في أفق واسع لا يزال يحفر في جبيننا السوري قصة إنسان وفنان ومبدع، حيث تناولت الكاتبة والصحفية أريج بوادقجي مسيرته الحافلة وهو الفنان والإنسان الذي أغمض عينيه، وما زال يحلم أن يعيش مثلما كان يعيش في حيّ السريان بمدينة حلب.
المكان الذي استطاع أن يجمع كل أطياف الشعب في حيّ واحد، بل في لوحة فنية ساحرة بكل ما فيها من تفاصيل غنية وألوان بهية، حيث كانت أعماله الفنية الخالدة وذكراه الطيبة كالحمامات، تطوف حولنا.
ولم يكن الدكتور حيدر يازجي فناناً بحتاً، وأستاذاً جامعياً صرفاً، بل كان شخصية متفردة، تمتلك مهارات الإدارة والتواصل الفعال، وقدرة عالية على التفاهم مع مختلف فئات المجتمع والشرائح العمرية، إذ كان إنساناً دمثاً مثقفاً متفهماً متواضعاً يستوعب الجميع، ويقدر قدراتهم ومهاراتهم.

من أنطاكية بدأت الحكاية
في لواء سورية الساحر «لواء إسكندرون» وفي مدينة أنطاكية «تاج الشرق» ولد حيدر سليمان يازجي عام 1946، من أسرة ريفية مكافحة، تحب الوطن وتعشق العروبة ولغتها العربية، وعلى صخور اللواء الصلبة خطا خطواته الأولى، ومن خضرته السورية عرف الجمال وألفه، ومن نهر العاصي رشف أولى رشفات النقاء.
آثرت عائلة حيدر الانتقال إلى مدينة حلب بعد أن سلب الأتراك بالتعاون مع الاحتلال الفرنسي اللواء السوري، رفضاً للجنسية التركية، وتمسكاً بالجنسية العربية السورية، ليعيش الفنان حيدر ما بقي من مرحلة طفولته بين أحضان أسرته في حيّ السريان في حلب الشهباء، هذا الحي الذي يمتاز بطابعه الخاص، وبجوه الاجتماعي المنفتح، فهو الحيّ الجامع لكلّ المجتمع الحلبي المحب للحياة والفن والأدب، وبجميع أطيافه تحت عريشة المحبة والانفتاح والتفاهم.

عمل ودراسة
لم يُخلق حيدر وحيداً وفي فمه ملعقة من ذهب، ولم تكن الطريق أمامه معبداً، فهو من عائلة سورية بسيطة، تركت ما تملك من رزق في مسقط رأسها أنطاكية، وراحت لتعاود البناء من الصفر في مدينة حلب، تعمل وتجتهد لتعيش، أما اليافع حيدر ذو القلب المتقد والعينين الطموحين، فلم يكن مستسلماً للظروف، ولم يغب الطموح يوماً عن مخيلته، إذ كان يستغل كل فرصة لتطوير ذاته، ولم يستصعب الدمج بين العمل والدراسة، ولم يتكبر يوماً على أي نوع من أنواع العمل، مهما كان شاقاً ومتعباً، ففي أيام الصيف الحارة، كان حيدر اليافع يعمل ببيع الخضر، فكل يحمل على ظهره كيساً من الخيش، وينادي بين الحارات القديمة، تارة على الخسّ، وتارة أخرى على الخيار.
وقد يسألونني: كيف نال حيدر الشهادة الثانوية وهو في هذه الظروف؟ هل سجل في مدارس خاصة، وحضر دروساً مكثفة في مادتي الرياضيات واللغة العربية؟
سأخبركم أصدقائي! لا هذا ولا ذاك، بل كان يعمل في معمل للنسيج في حلب، يحمل مع مجموعة من العمال أثواب القماش، وعند انتهائه من عمله المطلوب، كان يجلس على ظهر الشاحنة، ليفتح كتابه، ويبدأ بالدراسة والتحضير للامتحان.

إلى دمشق والفنون الجميلة
لم يكتف حيدر الشاب بحصوله على شهادة معهد الفنون التشكيلية من حلب، إذ كانت موهبته تناديه دائماً، وتلح عليه قائلة: «أريد أن أتطور.. أريد أن أنمو أكثر»، فقد شغله منذ الصغر حلمه بالانتساب إلى كلية الفنون الجميلة في دمشق، وخصوصاً أنه من عائلة فنية تميزت بموهبة الرسم، فإخوته جميعاً يحبون الرسم، أما أخواله فهم أدهم ونعيم وعزيز وصدقي إسماعيل، وقد سمّي مركز الفنون التشكيلية في دمشق بـاسم خاله أدهم إسماعيل.
إلا أن تحقيق هذا الحلم تأخر، فهو لم يتمكن من السفر إلى دمشق والدراسة فيها، حتى يؤمّن تكاليف المعيشة هناك.
وفي هذه الأثناء، لم يقف حيدر الشاب مكتوف اليدين، بل درّس مادتي الرسم والكيمياء في إعداديّات حلب وثانويّاتها، وعمل بكل حب فلم يكن مدرساً تقليدياً، كما كان عضواً مؤسساً لبعض الأنشطة الاجتماعية فيها، إذ أسّس مع مجموعة من المثقفين والمهتمين معرض الربيع الأول عام 1963م، وفي عام 1964م فاز بالجائزة الأولى لمعرض طلاب مراكز الفنون التشكيلية وخريجيها الذي أقيم في حمص.
وفي عام 1969م تحقق حلمه أخيراً، وانتسب إلى كلية الفنون الجميلة في دمشق، ليبدأ مشواره الأكاديمي، ويحصل فيما بعد على الجائزة الأولى لطلاب الجامعة السورية، كما كانت تسمى آنذاك.

أعمال فنية خالدة
عرف اليازجي بأنه فنان الواقعية الهادفة النابضة بالأحاسيس والمشاعر الناعمة، كما تأثر بالمدرسة الانطباعية، ونقلها في أعماله بأسلوب واقعي، وقد تميزت ريشته بنمط خاص، إذ أبدع في رسم الأشخاص بمقاساتهم الحقيقية أو القريبة منها، فهو يجسد التفاصيل الصغيرة بعبقرية وعفوية، وإحساس يكاد يدخل إلى مزاجاتهم النفسية، كما أقام العديد من المعارض الفردية، وشارك في العديد من المعارض الجماعية العربية والعالمية، وتنوعت أعماله بين البورتريه، والطبيعة والتوثيق.
أما النقاد فلم يمروا بأعمال الفنان يازجي مروراً عابراً، بل كانت لوحاته مادة دسمة للنقد والتحليل الفني، لما تتميز به من خيال وثقافة، راهن بهما على لا محدودية الابتكار والتجديد في الفن، فلفنه تجاور بصريّ صادم يبهرنا، ويحملنا لنعيش حالات إنسانية طالما اختلجت لوناً وضوءاً في مخيلة فناننا، لتكون لوحته مثالاً حاضراً للواقعية التعبيرية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن