ثقافة وفن

المعارك الأدبية بين أبي فراس الحمداني وأبي الطيب المتنبي … سيف الدولة أحب شاعره وأغاظ ابن عمه فكانت الغيرة بينهما

| د. رحيم هادي الشمخي

كان في المتنبي اعتداد بالنفس وشموخ جعله يتعالى على الآخرين ما دفعهم إلى الحقد عليه وتدبير المؤامرات له وتلمس العيوب والسقطات، أما أبو فراس الحمداني فهو الناشئ في ظل نعمة وفي بيت الملك وقرابته من سيف الدولة الحمداني، وشعره الرقيق وأخلاقه الرفيعة يؤهّلانه ليكون في منزلة عالية ومكانة رفيعة.
وكان سيف الدولة يعجب جداً بمحاسن أبي فراس ويميزه بالإكرام على سائر قومه، ويصحبه في غزواته، ويستخلفه في أعماله، ولهذا كان أبو فراس يرى في المتنبي رجلاً من السوقة رفعه شعره درجات فوق ما يستحق، وكان المتنبي يرى في أبي فراس أميراً ذكياً، رفعت الإمارة من شعره درجات فوق ما يستحق وأكسبته شهرة في الأدب لم يكن ليصل إليها لولا قرابته ومكانته من سيف الدولة، فكان ينطبق عليهما قول (ذي الإصبع العدواني)، (فخالني دونها بل خلتها دوني)، ولقد صحت فراسة أبي فراس الحمداني في المتنبي، منذ أنشد سيف الدولة قصيدته الميمية بعد أن أجلى الروم عن (حصن يرزويه)، وكان أبو فراس ابن عم سيف الدولة يشاركه الإعجاب حتى وصل إلى قوله:
عجبت له لما رأيت صفاته
بلا واصف والشعر تهذي طماطمه
عندها علم أبو فراس أن حرباً أدبية بجانب حرب الروم نشبت نيرانها في حلب وأن (شعراء الشام) لن يلقوا أقلامهم أمام هذا الشاعر المتحدي للمعركة الأدبية بين الشاعرين..
كان سيف الدولة إذا تأخر المتنبي عن مدحه شق ذلك عليه وأحضر من الأخير فيه، وذات يوم قال أبو فراس لسيف الدولة، إن هذا المتشدق كثير الإدلال عليك وأنت تعطيه كل سنة (ثلاثين ألف دينار) عن ثلاث قصائد ويمكن أن تفرق مئتي دينار على عشرين شاعراً يأتون بما هو خير من شعره، فتأثر سيف الدولة مما سمعه من أبي فراس الحمداني، وكان المتنبي غائباً فبلغته القصة فدخل على سيف الدولة وأنشد أبياتاً فأطرق سيف الدولة ولم ينظر إليه كعادته، ثم حضر إلى مجلس سيف الدولة وأنشدها بين يديه على مرأى ومسمع من الشعراء وأبي فراس، وجعل يتظلم فيها من التقصير في حقه، يقول:
ما لي أكتم حباً قد برى جسدي
وتدعي حب سيف الدولة الأمم
إلى أن قال:
قد زرته وسيوف الهند مغمدة
وقد نظرت إليه والسيوف دم
فهمّ جماعة بالتعدي عليه في حضرة سيف الدولة لما رأوا إدلاله وإعراض سيف الدولة عنه، فلما وصل في إنشاده إلى قوله:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي
فيك الخصام وأنت الخصم والحكمُ
قال أبو فراس قد مسخت قول (دعبل):
ولست أرجو انتصافاً منك ما ذرفت
عيني دموعي وأنت الخصم والحكم
فقال المتنبي:
أعيذها نظرات منك صادقة
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
فعلم أبو فراس أن المتنبي يعنيه فقال: ومن أنت (يا دعي كندة) حتى تأخذ أعراض الأمير في مجلسه، فاستمر المتنبي في إنشاده ولم يرد عليه إلى أن قال:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأنني خير من تسعى به قدم
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
فازداد أبو فراس غيظاً وقال: وقد سرقت هذا من (عمرو بن عروة بن العبد) حيث يقول:
أوضحت من طرق الآداب ما اشتكلت
دهراً وأظهرت إغراباً وإبداعاً
حتى فتحت بإعجاز خصصت به
للعمى والصم إبصاراً وإسماعا
وظل المتنبي يواصل إنشاده غير عابئ بما يقال حتى انتهى إلى قوله:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فقال أبو فراس: وماذا أبقيت للأمير، إذ وضعت نفسك بكل هذا؟ تمدح الأمير بما سرقته من كلام غيرك وتأخذ جوائز الأمير، أما سرقت هذا من (ابن العريان) حيث يقول:
أنا ابن الفلا والطعن والضرب والسرى
وجرد المذاكي والقنا والغواضب
فقال المتنبي:
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره
إذا استوت عنده الأنوار والظلم
فقال أبو فراس: وهذا سرقته من قول (معقل العجلي)
إذا لم أميز بين نور وظلمة
بعيني فالعينان زور وباطل
وعند ذلك ضجر سيف الدولة الحمداني من كثرة مناقشة هذه القصيدة وكثرة دعاويه فيها فضرب المتنبي بالدواة التي بين يديه فقال المتنبي:
إن كان سَركمُ ما قال حاسِدُنا
فما لجرح إذا أرضاكم ألمُ
فقال أبو فراس: وهذا أيضاً أخذتَه من قول (بشار بن برد)
ولكن سيف الدولة أعجبه بيت المتنبي الأخير فلم يلتفت إلى قول (أبي فراس) ورضي عن أبي الطيب المتنبي، وأدناه إليه وقبّل رأسه وأجازه بألف دينار ثم أردفها بأخرى.
سؤال: من يستحق أن يكون زعيم الأدب العربي في ذلك العصر؟
هل الفارس الشاعر أبو فراس الحمداني، أو الحكيم الشاعر أبو الطيب المتنبي، مالئ الدنيا وشاغل الناس؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن