ثقافة وفن

«في تمام السادسة إلا ثلاثين» لفائزة داوود … من يود التثقف والدهرنة أن يعي حجم التحدّي فالقليل لم يعد كافياً والاختصاص الواحد أصبح طبيعياً

| آلاء جمعة

في تمام السادسة إلا ثلاثين المولود العاشر من أعمال الأديبة فائزة داوود عمل قصصي رشيق أنثوي كقلم صاحبته يقع في 143 صفحة من القطع الصغير من إصدارات الهيئة العامة السورية للكتاب 2018 يضم في جعبته أربع عشرة قصة أطولها أولها وهي على الترتيب: متاهة، عالم جميل ولكن، في تمام السادسة إلا ثلاثين، في قلب العتمة، غجرية السهل الأصفر، رغيف خبز، رجل الأسئلة، حفل تكريم لشاعر لا يموت، الوشاح البنفسجي، جمعة الراقص، نعمة الزرقاء والذئاب، كيس نقود، قرنفل بلدي للبيع، الديك الشافي.

عندما تقرأ القصة الأولى يخيل إليك أن الكاتبة ستلون مجموعتها كاملة بلون الحرب والأزمة السورية التي باتت تتربع على معظم نتاجاتنا الأدبية والفكرية والدرامية ولكن من الجميل أن الكاتبة نوعت في مواضيع قصصها فكان لذلك وقع جميل على الوجدان ومواساة متقطعة وتخفيف من ثقل الأحزان على القلب بين الحين والآخر، حتى هي وإن تناولت الحرب فهي لا تصرح بها بل غالبا ما تصور شيئاً من نتائجها أو ضحاياها أو ومضات من أحداثها فتثير فيك الكراهية والنفور من تلك الحرب ومن أعداء الوطن من غير تصريح أو توجيه اتهام أو تحميل القصة جملاً تعكس إديولوجية الكاتبة وخلفيتها الفكرية أو السياسية بل هي ترصد بكاميرتها السردية والإخراجية تفاصيل من هنا وهناك ومقتل هذا وذاك من دون أي تدخل منها أو تلقين استنتاجات، وهذا برأيي ذكاء وقدرة فريدة استطاعتها الكاتبة فائزة داوود كما أنها تسير بالأحداث سريعاً بلا اختصار مبهم أو إطالة بلا فائدة فأنت إذ ذاك تمسك بالكلمة الأولى حتى الأخيرة بلا ملل يقطع لك خيط السرد وتتابع الحدث: ومن اللافت أيضاً أن الكاتبة نوعت في فضاءات الأمكنة ومسارح قصصها فتشعرك أنها خرجت من غير كاتب لا كاتب واحد وعقل وخيال واحد على عكس الكثير من الكتاب الذين يحصرون أبطالهم بأماكن محددة ومكررة تعكس فقر إبداعهم وخيالهم وتجاربهم كما يأتي نغم السرد في مجموعتها متناسقاً ومترابطاً سلساً بلا ركاكة أو تلكؤ، كما حملت لغتها في بطنها التوءم المتلاصق من الفصحى الأنيقة لا البسيطة السطحية ولا العالية العصية على الفهم وأيضاً العامية التي بات لاغنى عنها أحياناً كمرآة تعكس الواقع أو المشاعر بشفافية قد لا تصل إليها الفصحى أو تجافيها أحياناً فتوردها في قصصها من غير إكثار ينم عن عجز لغوي أو إقلال تشعر أنه لاداعي له بل تستخدمها حيث يتطلب الأمر ذلك بشكل دقيق قد يجعلك أحياناً لا تنتبه إلى ذاك التشكيل بسبب التناغم والتقارب الذي جعلته بينهما، الفصحى بسيطة مفهومة والعامية مشدودة غير مبتذلة حتى إنها قد كتبت مثلاً بالفصحى وهو عامي (أعط خبزك للخباز حتى لو أكل نصفه).

قلة التصوير
ولكن مما يؤخذ على لغتها فقر بضاعتها من الصور والتشابيه فلا يسحرك تشبيه ما أو تأخذك استعارة ما للتفكير بحلاوتها وجدتها وأناقتها، فالتصوير قليل جداً ويبدو أنه لم يكن من أدوات الكاتبة المفرودة على طاولتها فتراها تهتم للسرد ورشاقة الأسلوب أكثر من تزيين اللفظ وزخرفة الجمل، فيبدو عملاً أدبياً شبه خال من الفنيات اللفظية والمعنوية وهذا برأيي مأخذ كبير وليس أمراً ثانوياً فما جمال الأدب إلا برصانة الأسلوب وغنى المحتوى وتبرج الكلمة والعبارة.
وبالحديث عن أفكار القصص ومحتواها السردي نرى كما تحدثنا في البداية عن ست قصص تتناول جوانب مختلفة من الحرب وتصور بعض مشاهدها، فنرى الجندي التائه عن قطعته الناجي من الموت والحطام، وذاك البطل الذي فقد نصفه من أجل ركله قنبلة كانت تتدحرج قاصدة أقدام رفاقه وتلك التي تذهب ضحية أصحاب الرايات السود، فيعرونها ويستبيحونها ويقتلون زوجها وأخرى تعشق جندياً كان يودعها مستعدا لموته فتموت هي على يد الرجال السود وتلك التي تذهب بابنها بعيداً عن مطر القذائف وتتسول في قرية آمنة.

هل الثقافة ترف؟
أغلب الناس كانوا يعتقدون في الماضي أن الثقافة هي ترف فكري لا ضرورة تدعونا إليها وأنها ليست من أولويات حياتنا ربما لأنهم كانوا في انغلاق وشبه عزلة عن العالم وكانت حياتهم بجلها بسيطة ومتطلباتهم أيضاً كذلك، حتى مشاكلهم كانت على درجة من التعقيد الكبير ولكن الذي لا يصل لما نحن عليه الآن وربما هذا أتى من التطور والعولمة والحضارة بكل فروعها وخاصة التقنية منها، ولذا بات من الضروري جداً أن يمتلك الإنسان مقدارا من الوعي الذي يتناسب وعصره الحاضر ويتطور باطراد معه ومع منجزات الإنسانية وكأن أيامنا هذه تصيح بنا «قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون» فتطحن بأسنانها كل ضعيف وكل ساذج وكل أعمى بصيرة أو يحدث أن تناوله أحياناً سكين الفوضى القذرة التي نرى لها ألواناً سخيمة خاصة في أيامنا هذه فالإنسان البسيط الذي لا يملك في عقله سوى التلافيف الذهنية المجردة من كل علم وفكر تنويري لابد أنه سيكون خطراً على نفسه أولاً وربما أو في الأغلب سيمتد أذاه واقترافات جهله إلى الآخرين وقلة الوعي، هذه البساطة الساذجة التي تسيطر على الأغلبية من الناس التي لا تقيم بالاً لأي أمر يتجاوز همهم اليومي من غذاء ولباس وقيل وقال ومشاحناتهم مع محيطهم المجتمعي الضيق هي أشد العوامل خصباً لزرع التطرف والجمود الفكري والإرهاب الديني والسياسي، والأزمة السورية كانت خير برهان على ذلك بعيداً عن الاختزال وإحالة باقي العوامل الأخرى جانباً.
وعليه نحن الآن وفي كل زمن ندفع دوماً ثمن قلة المعرفة والأفعال الغوغائية والفكر المتطرف وتبقى النخبة المتنورة بعيدة خافتة الصوت لا يسمع لها همس فهي إن تكلمت ونبهت ووعظت كله يذهب أدراج الرياح ولا تلاقي لها أذناً واعية إلا ما ندر.
هذا وإن أخذنا بالحسبان الاصطفاء الطبيعي وأسقطناه على علم الاجتماع وجدنا أن تدهورنا بين الأمم المتحضرة ليس بالأمر الغريب فنحن أقل منهم في كل شيء والأدلة كثيرة على ناكر ولأن البقاء هو للأقوى فلا يحزن الأمر كثيراً وبات خضوعاً لقوانين الحياة أن نترك لهم الساحة ليتكاثروا وأخذنا نحن دور الجراثيم والأجسام الغريبة التي تتضافر الجهود للقضاء عليها.
وبعد كل هذا وما أوضحناه من أضرار وآثار قلة الوعي والثقافة في المجتمع يأتي رجل ليقول بكل برود سخيف الثقافة ترف فكري ليس من أولوياتنا الآن، ولا الفقر ولا العوز يبرر له عدم قراءته واطلاعه ولسنا الآن بصدد الحديث عما يقدمه الإنترنت من معلومات مجانية بطرق مختلفة تطولها كل يد إلا من اشتد فقره وانقطعت سبله للعلم فهذا جهله لا يضر لقلة أمثاله من المعدومين أو ما تحت العدم.

الثقافة ومعاييرها
ويبقى السؤال هنا من المثقف؟ وما معايير الثقافة إن وجدت؟
قديماً قيل إن المثقف هو من يعلم كل شيء عن شيء وشيئاً عن كل شيء.
وهذا صحيح بلا شك ولكن قديماً، أما الآن فأصبح الأمر أعقد بكثير وأشد صعوبة فمثقفو الماضي جهلاء الحاضر قياساً على المعارف الحالية، فالعلوم القديمة كانت على درجة من البساطة تمكن من اطلع عليها أن يلم بجلها إن كان على درجة من الذكاء واتقاد الذهن فلا تعدو العلوم أن تتجاوز بفروعها أصابع الكفين أو أكثر قليلاً أما الآن فالعلم الواحد في بابه له اختصاصات وفروع تتجاوز أصابع الكفين أحياناً وربما أكثر أيضاً فهيهات أن يكون صاحب الاختصاص الواحد ملماً بكل ما فيه ومحتوياً له بكل تفاصيله وقضاياه حتى تراه يعرف ويبحر في الأبواب والعلوم الأخرى الآخذة بالتضخم المستمر، فبرأيي من حاز ذلك أصبح من رتبة العباقرة بلا شك وليس من المثقفين فحسب، وهذا ما يعتبر من تحديات تطورنا وحداثتنا وأظن ظناً يقارب الجزم أننا في المستقبل القريب ستتضاءل أمامنا فرص العمل أكثر فأكثر لكون دراستنا لم تصل لمراحلها العليا أو لفقر بضاعتنا وعدم نيلنا إجازتين أو مهارتين أو أكثر في سيرتنا الذاتية على الأقل. فالأمور تذهب للتعقيد أكثر وتتطلب منا بذل مجهود مضاعف للحصول على الكفاءات المناسبة لتطورنا هذا، ولم نتحدث بعد عن الذكاء الصنعي الذي أصبح مشاركا فعالا في الحياة العلمية وما قد ينتجه في المستقبل القريب من بطالة بشرية واسعة وتهديد لمراكز سلطتنا وقوتنا الوظيفية، فكل هذا التحدي والتحفيز يذهب بعقلنا ليكون أشد تطورا بلاشك وأكثر تميزا وهذا ما حدث لأجدادنا من قبل حسب نظرية التطور الطبيعي، فيصبح مثقف الماضي جاهل الحاضر، وعبقري الماضي مثقف الحاضر، وعبقري اليوم مثقف المستقبل ومثقفونا الآن جهلاء المستقبل نسبياً.
فعلى الواحد منا الآن ممن يود التثقف والدهرنة أن يعي حجم التحدي الذي يقابله فالقليل لم يعد كافياً والاختصاص الواحد أصبح من الطبيعي وليس من الأمر العظيم المبهر، فاتساع المعارف وتضخم العلوم يتطلب منا نهماً معرفياً أكبر واطلاعاً أشمل، والتلافيف التي في رأسنا الآن يجب أن تواكب العصر لا أن تتقدم الحضارة على أيد النخبة والعلماء في بقعة من العالم ونبقى نحن غريبين في زماننا ليس لنا إلا المشاهدة وترقب النهاية لمآسينا لاعنين الحظ والغرب لا حظ لنا من العسل إلا لقيمة منه بل يصل الحال بالآخرين أنهم لايجيدون تذوقه ولا يقدرون غلاء ثمنه بل ينكرونه أيضاً تحت شعار لاضرورة له وهم من لاضرورة لبقائهم على البسيطة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن