ثقافة وفن

النور والتنوير والفضل..!

| إسماعيل مروة

تتردد أسماء، يبقى في الذاكرة منها ما يبقى، وينبش بعضها ترهل الفكر ليعيد إليه الصحو في مراحل عدة، بالأمس استبد بي القلق، وفعلت ما أفعل عادة، أهرع إلى مكتبتي لأقرأ شيئاً، أو أطلب قناة ثقافية لا أتمكن من متابعتها عادة، فإذا بي أسمع الأستاذ الدكتور صلاح فضل، الأستاذ الرائد والعالم، صاحب الدراسات الذائعة والمؤثرة، التقيت د. فضل مرة واحدة، وسمعت منه كلاماً طيباً يشبه محاضراته وكتبه، وتحول إلى جوهر الذاكرة، لكنني بالأمس كنت بحاجة لسماع أشياء لا تتعلق بالنقد، وكان لي ما أردت، فالدكتور فضل تحدث عن المبتعثين وغاياتهم، وتحدث عن الدكتور حسين مؤنس العالم الجليل الذي كان ملحقاً ثقافياً في إسبانيا ورعايته للطلبة، وأشار إلى أن صاحب الفضل في هذه البعثات هو الأستاذ الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي، فتحدث عن أساتذته وسابقيه باحترام وتقدير واعتراف، وتحدث عن زملائه بحب قلّ مثيله، ولكن ما يعني هنا حديثه عن الابتعاث وغايته، فهو أرسل للحصول على شهادة الدكتوراه في الأدب، وكان بإمكانه أن يفعل ذلك وفي شهور من دون أن يتقن الإسبانية، لكنه تفرغ لتعلم الإسبانية، ومراجعة المخطوطات، والترهب في الإسكوريال، بل شكل فريقاً من المبتعثين لفهرسة هذه المكتبة بغية الاستفادة منها، وبعد دراسة ممعنة فرضها على نفسها عاد ليكون ناقداً مهماً ومثالاً للدارس الذي يحمل ما لا يحمله الآخرون.
أما حديثه الأهم، والحديث قديم قبل وقت، فهو حديثه عن العلاقة بين الثقافات، وموقفه من الثقافة العربية والتراث، فهو كما يتفق الباحثون يرى أنه مر زمن كانت فيه الثقافة العربية ثقافة علم وأدب وحضارة، وقد أخذ العالم الآخر عنها من دون تحفظ، من العالم الغربي إلى العالم الشرقي، وقد نهضت حضارات على أكتاف الثقافة العربية، وفي هذا الإطار يقدم الدكتور فضل دراسة مميزة ورائدة عن تأثير الأدب العربي في الآداب الأوروبية، ويضيف إنه ليس مع المتحفظين على المثاقفة مع الحضارات الأخرى، بل علينا أن نقوم بأمرين مهمين، أولهما أن نأخذ العلم والأدب والنقد والثقافة من الأمم الأخرى، ومن دون أي تحفظ للنهوض بثقافتنا وأمتنا، ولن يكون النهوض بإعادة اجترار الماضي، وثانيهما أن نقف في قراءة نقدية للتراث العربي القديم، وأن ندرسه دراسة نقدية قاسية، فليس كل التراث القديم يصلح لأن نقرأه ونقدره ونحياه، ففيه الكثير مما يستحق الإتلاف والإهمال.. هذه الفكرة غاية في القيمة والأهمية، وأغلب ما نحن فيه من تخلف علمي وحضاري ونقدي يعود إلى جهلنا بالثقافات الأخرى، وابتعادنا عن الأخذ عنها ودراستها، وكذلك يعود إلى الطريقة التي نتعامل بها مع التراث، فكل ماض مقدس، وكل قديم له قيمة! وكل الحاضر لا يفهم كما يفهم بدوي في الصحراء، قال فأخطأ، فأوجدنا مسوغاً للخطأ وتابعناه عليه!
إن أي كتاب مخطوط، ولو كان كاتبه ركيكاً أو فارسياً أو تركياً، أو لصاً نقف عنده موقف العابد للتراث والمخطوط، ما يمنعنا من تقديم الرؤى والاجتهادات والقراءات! وما من أمة في الكون تجد الباحث فيها يقزم نفسه لماض ميت، ويقبل أن يكون طالباً متخلفاً ورديئاً على طاولة أحدهم لمجرد أنه مات وانتهى.
أطرف ما في الحوار أن المحاور لم يطرب لرأي الدكتور فضل في التراث، وهو الناقد الذي هضم التراث فقاطعه، ولم يعطه الفرصة للشرح، لذلك آليت على نفسي أن أشرح شيئاً مما لم يسمح به المحاور المذيع، خوفاً من ألا يحظى برضا طائفة من التراثيين المحنطين الذين لا يقبلون رأياً بأي شيء مضى، ولا يقبلون شيئاً نحياه.. الحروب تأتي وتنتهي، وبانتهائها تزول آثارها تدريجياً ويعود البنيان، لكن الأهم الذي لا جدال بأهميته وخطورته هو الفكر والثقافة، هو الجهل والتعامل مع ممارسي عملية التجهيل الممنهج لتبقى راياتهم خفاقة، وليستمر تسلطهم على الفكر والمجتمع، على الرجل والمرأة، على الطفل ومقعد الدراسة! والأدهى أن هؤلاء هم شركاء السلطات السياسية العربية عبر التاريخ، يتقاسمون السلطة والمال والهيمنة، ويتقاسمون غنائم التجهيل الخطر الذي يعيدنا في كل مفصل نهضوي إلى حروب داحس.
للنور والتنوير علائم تتجاوز الأنا، ولا تكتفي باجترار الذات، وإنما تسعى لمعرفة الآخر وقراءته، والإفادة مما لديه، وللإفادة شروط الجراحة القاسية للغاية، التي قد تضطر أحدنا لرفض الكثير الكثير مما أنتجته الذات حتى لا يصبح العلم اجتراراً، وإعادة تدوير لما يدور في الذات من خصوصيات..
إن ما طرحه المتنورون ابتداء من عبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده وغيرهما من العلماء وأصحاب الرأي، وصولاً إلى عبد السلام العجيلي وصلاح فضل وجابر عصفور وسواهم يستحق أن يقف المرء عنده مطولاً..! لم يقف عنده السابقون وها نحن نستهجنه اليوم، ونرفض الوقوف عنده، وربما ننعت القائل به بأقسى النعوت، لنحافظ على كينونة متورمة لا خير فيها غير المصلحة الذاتية والخاصة..! لو أردنا أن نعطي حكماً حقيقياً على ما نحن فيه فإننا سنصاب بالخيبة إن اكتشفنا واعترفنا بأن ماضينا البعيد والقريب على السواء كانا أكثر حرية فكرية واجتماعية من حاضرنا! وتزيد المفارقة عندما نستشف أن المقبل ليس أفضل من اليوم نهائياً، وأن الانحدار الفكري الذي تمثل في تقديس ما لا يستحق، ورفض ما يجب تقبله ما يزال مستمراً، سنعرف أن الحياة تبدأ غداً، ولكن بغد مشروط بالتحضر والقراءة والانفتاح، وببصيرة يعجز الجهل عنها.. إن الجهل في كل ميدان هو الذي يحكم حياتنا، والجهل تورم، والتورم عناد، والعناد تطرف لا مثيل له.. ومن جهل إلى جهل حياة تستمر رتيبة، والمنارات تخبو ولا يظهر فضل متنور، ويمكن أن نكشف في المتنور ما يستحق الشتم واللعن لنحوله إلى أبي رغال، لكن افتقد فضيلة أن يقصده الناس المؤمنون لرجمه!!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن