ثقافة وفن

في طرطوس… عبقرية المكان تتجلى بأبهى صورها … قلعة معلقة بالسماء وتسبح في الفضاء وتتواصل مع الآخرين بالشهب النارية

| المهندس علي المبيض

بدايةً لابد لنا من أن نؤكد أننا حين نستعرض في مقالاتنا الأسبوعية التي نقوم بنشرها الحضارات والممالك التي قامت فوق هذه الأرض الطاهرة إنما نحاول أن نستنهض الهمم لكي نستعيد للتاريخ سيرته في شتى المجالات الثقافية والعلمية وفنون العمارة التي مازالت آثارها شاهدةً على شموخ وعظمة هذه الأمة.
واستكمالاً لما بدأناه سابقاً سنمضي في مقالتنا اليوم لاستعراض بعض القلاع في محافظة طرطوس، والحديث عن طرطوس هو دعوة إلى الروعة والجمال، طرطوس يا لغة الزيتون.. ياطائر الفينيق الذي ينبعث مجدداً، طرطوس ياأيقونة الشمس والبحر.. يامن تهب الأرض عطراً وجداول، يامن تمتلئ يداها بأزهار الزنبق والليمون..
عندما تقوم بزيارة طرطوس تلك المدينة العريقة التي تنبثق مطراً امتلئ فيها حباً واترك للبحر بقية التفاصيل..
قلعة العليقة إحدى القلاع الأثرية في مدينة بانياس تبعد نحو 85 كم عن طرطوس و20 كم عن قلعة القدموس من الجهة الشمالية الغربية وإلى الشرق من الوادي الشهير بوادي جهنم، تميزت عن غيرها من قلاع العالم بأنها مبنية على صخرة واحدة، إذ إنها أقيمت على مرتفع صخري كلسي يوفر لها ميزات وقدرات دفاعية بالاستفادة من موقعها في الطبيعة ويقال إن الصخرة التي بنيت عليها القلعة هي امتداد لجبل تم فصله ونحته باليد العاملة وتطل القلعة على البحر بشكلها الدائري البيضاوي وترتفع عن مستوى البحر نحو 815 م، ويميل الباحثون إلى أن بناءها الأول يعود للفترة اليونانية والرومانية حيث عثر على آثار يونانية بالقرب منها. ‏
تتميز بلونها الأخضر لكثرة أشجار الجوز والتين والعنب والرمان والزيتون، تبلغ مساحتها نحو 18000م2 أطلق عليها هذا الاسم لكثرة نبات العليق فيها، وهو نبات أخضر ينبت بكثافة بين حجارة القلعة كأنه يربط بعضها ببعضها الآخر.
كان يتم التنسيق بينها وبين القلاع المطلة عليها في الساحل السوري بواسطة الشهب النارية كقلعتي المرقب والقدموس حيث تتمركز القلاع الثلاث على قمم جبلية متقابلة في المحافظة.
تتدرج القلعة في الارتفاع حيث يتوضع القسم الملكي في المركز وحوله المنازل وتتدرج بالانخفاض حتى السور الخارجي الذي يحتوي كثيراً من الأبراج الدفاعية التي تساهم في تقوية السور الذي يرتفع حيث تحيط بها الوديان من معظم الجوانب فتعطي الزائر إحساساً كأنها قلعة معلقة بالسماء وتسبح في الفضاء، لوجود الأبراج على محيط السور وذلك لناحية دفاعية وخاصة إمكانية الهجوم من الجهات المناسبة لوجود العدو وقد يكون كثرة وجود الأبراج من أجل التمويه ولعدم تحديد المدخل بسهولة.
كما تحتوي القلعة على جدار لقصر متهدم يعتقد أنه كان قصر بنت الملك تأخذ نوافذه شكل مرامي السهام، ضيقة من الخارج وواسعة من الداخل، التي كانت تستعمل للأغراض الدفاعية أثناء الحروب. ‏
للقلعة سوران متداخلان أحدهما ضمن الآخر مبنيان بأحجار كبيرة فيبدوان كأنهما قلعة ضمن قلعة حيث تتوزع الأبراج والقناطر عليها إلا أن جزءاً منها تهدم عبر الأزمنة، وكانت تبدو بوابتها الرئيسية واضحة المعالم حتى وقت قريب، كانت تغلق ليلاً وذلك بسبب السكان الذين أقاموا فيها، حيث سكنها أبناء قرية العليقة المجاورة للقلعة فترة من الزمن إلى أن تسلمت المديرية العامة للآثار والمتاحف مهمة الإشراف عليها عام 1980م. ‏
ولابد من الإشارة إلى أمر مهم يعكس تفوق السوريين في بناء القلاع والحصون والخبرة التراكمية الكبيرة لديهم في إشادة تلك المنشآت التي تندرج ضمن المنظومة الدفاعية وهو أن القلعة لها مدخل وحيد من الجهة الشمالية الشرقية لا يمكن لأي كان دخولها إلا من خلاله وموقع المدخل ذو طبيعة خاصة إذ إن مكانه يتناسب مع طبيعة الأرض، فالقلعة تتميز بالارتفاع وأنها محاطة بالوديان وبالتالي فموقع ومكان المدخل أكثر أمناً لأهل القلعة ويمكن الدخول إليه مع حمايته بشكل مناسب، حيث كان يتم الدخول إلى القلعة بشكل مواز لجدار القلعة وليس بشكل عمودي عليه بسبب تقليل الارتفاع أثناء الصعود وبالتالي يتم الصعود بشكل منساب وإلا صعب تحقيق الوصول إلى القلعة بشكل مريح، ويتميز المدخل بالانكسار وبوجود سقاطات إضافة إلى أن المدخل ضيق نسبياً ولا يتصف بالاتساع وذلك لجعل كثافة الجنود المهاجمين محدودة بحيث يتم القضاء عليهم بسهولة.
وباعتبار أن للقلعة مدخلاً وحيداً فقد كان من أهم أسباب منعتها وصمودها وذلك لتمكن الحراس من السيطرة عليه والدفاع عن القلعة والقضاء على المهاجمين ويقف الحراس على الباب الرئيسي ويتصلون من خلال إشارة متفق عليها بالملك أو الحرس من خلال فتحة في سقف المدخل في حال وجود زائرين أو وجود أخطار خارجية. ‏
وكما ذكرنا سابقاً فإن للقلعة سورين متداخلين أحدهما ضمن الآخر حيث يعتبر السور الأول خطاً دفاعياً أول ويتراوح سماكته بين (2-3)م، والسور الثاني خط دفاعي ثان حيث تبلغ سماكته نحو 1.5 م، ويحيط بالملك والحاشية وقاعة العرش والقصر.
ويحتوي سور القلعة على بروز على شكل تجويف لوضع شعلة تضاء في الليل للدلالة على مكان القلعة
وتضم القلعة أقنية فخارية جيدة البناء وبئر ماء على شكل مخروطي الشكل وخزان محفورين في الصخر، كما تضم مسجداً تهدمت جدرانه ولم يبق منه سوى الأقواس المتقاطعة مع بعضها وهي تستند على دعائم كما يوجد بئر ماء أخرى محفورة بالصخر على مقربة من الحمام.
ويعتبر الحمام من أهم المعالم الأثرية في القلعة يبلغ طوله 8 م وعرضه 6م، سقفه معقود ويأخذ شكل نصف أسطواني تتخلله أقواس متقاطعة ويحتوي على خزان ماء محفور بالصخر، كما تضم القلعة عدداً من المنازل بعضها لم يبق منه سوى الأساسات الحجرية، وبعضها قائم حتى اليوم ويدل ذلك على إعادة استخدام الحجارة في البناء وهي حجارة مختلفة الأحجام تستعمل في بناء الجدران كما أن سقف هذه المنازل على شكل قبوات أسطوانية لمقاومة قوى الضغط وتجنب تجمع المياه فوقها منعاً لتسرب المياه للداخل.
وضع القلعة حالياً بحاجة إلى بعض أعمال الصيانة للمحافظة عليها ومن ثم توظيفها كنقطة جذب سياحي لكونها أحد المعالم التاريخية المهمة في سورية لما تتميز به من خصوصية معمارية تعكس تقدم السوريين في تلك الفترة ثقافياً ومعمارياً خاصةً في العمارة العسكرية وحتى تفوقهم في الجانب العسكري والدفاعي.
أثناء قيام أحد سكان القلعة بحراثة الأرض في القلعة تم العثور تحت الأرضية على عدة غرف كلسية بيضاء من الممكن أن تكون قد استخدمت كملاجئ أو مستودعات، كما وجد مكتوباً على أحد الأحجار التي تشكل برجاً كبيراً «أمر بعمارة هذا البرج الزردخاني المبارك العبد الفقير إلى اللـه تعالى صقر العجمي النيطري عام 1271م، وكان من القادة الذين خاضوا معارك بحرية كبرى ضد الصليبيين».
قلعة يحمور وهي قلعة عربية قديمة من قلاع محافظة طرطوس، تقع القلعة في قرية يحمور على بعد نحو 12 كم جنوب شرق طرطوس وعلى بعد 20 كم غرب صافيتا وهي في أقصى الركن الجنوبي لسلسلة الجبال الساحلية حالياً حيث تشرف على السهل الساحلي من طرطوس إلى جبال لبنان وتقع في منطقة سهلية، يروي أبناء المنطقة قصصاً وأساطير عديدة عن وجود نفق تحت الأرض يربطها بعمريت، وتشكل قلعة يحمور مع برج ميعار وقلعة العريمة وقلعة طرابلس وأرواد وبرج صافيتا شبكة اتصالات متكاملة.
بنيت القلعة على أنقاض معبد فينيقي، يعود بناؤها للملك البيزنطي قسطنطين استناداً لكتابات تم اكتشافها في القلعة، وكانت قلعة يحمور جزءاً من مملكة عمريت وأرواد وقد حررها صلاح الدين الأيوبي خلال حروبه مع الصليبيين عام 1188 م، ترتفع القلعة نحو20م وهي على شكل برج محاط بأسوار على شكل قنطرة كبيرة من الجهات الأربع، وهي كغيرها من القلاع تحتوي على قاعات كثيرة وفتحات لرمي السهام وأماكن للخيل وعدة سراديب مخصصة للنجاة ويوجد حتى الآن بقايا خندق يحيط بالقلعة لحمايتها وتتألف القلعة من طابقين ويقال إنها كانت مكونة بالأساس من ثلاثة طوابق لم يبق منها إلا طابقان بفعل الحروب والظروف الجوية وبفعل الهزة الأرضية القوية التي ضربت الساحل السوري عام 1586م:
الطابق العلوي ويتألف من صالة ضخمة تقوم على عمود ضخم في وسطها تنتهي به الأقواس التي تحمل السقف ويطل مدخلها الموجود من جهة الغرب على سطح الطابق الأرضي حيث يحوي أبراجاً للمراقبة والإنذار كما تحتوي فتحات عبارة عن مرامي السهام. ‏
الطابق الأرضي ويضم صالة كبيرة تحوي عموداً ضخماً في مركز القاعة مربع الشكل ضلعه نحو المترين‏ ومن الجهة الغربية توجد قاعة واسعة يبلغ طولها نحو 70م، وتحمل البرج الصغير في أعلاها، أما في الجهة الشرقية على يمين مدخل القلعة فهنالك قاعة طويلة دلت الدراسات على أنها قاعة نوم الجنود، ولم يبق من قلعة يحمور حالياً سوى برجها المرتفع 15م، وسور بطول نحو 34م، وأمام المدخل الرئيسي يوجد فتحات تحت الأرض هي على الأرجح آبار ماء.
معاون وزير الثقافة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن