ثقافة وفن

ومن يشتهي الفراق؟ … أحلام مستغانمي… (شهياً كفراق)

| هبة اللـه الغلاييني

إلى أي مدى يمكن أن يدوم الحب؟
ما تاريخ صلاحيته؟
وهل يبقى (إلى الأبد)؟؟!!
تعود إلينا الروائية الجزائرية (أحلام مستغانمي) بعد غياب خمس سنوات، بكتاب حول (الفراق)، اختزلت فيه كل مشاعر الحب، وما يتبعها من هجر وفراق، كما صححت فيه للعشاق مفهوم الحب، وتداعياته، ومدى صلاحيته، إذ لا حب يدوم أكثر من ثلاث سنوات، حسب رأي الخبراء، استنادا إلى تطور المشاعر وتحولها مع الوقت من اللهفة إلى الفتور.
لألوم على المغادرين إذن، ما دمنا مبرمجين وجدانيا للفراق، فاستنادا إلى الأبحاث العلمية، يجزم علماء النفس بأن للحب فترة صلاحية، وبما أن الحب لا يشترى في علبة أو قارورة من صيدلية، يكتب عليها تاريخ انتهاء مدته، لم يدر العلماء كيف ينقلون لنا هذه الخبرية.

وها هي (أحلام مستغانمي) تنقل لنا هذا الخبر فتقول:
( باكرا ينصرف العشاق في صف السنة الثالثة _حب، يكونون قد غادروا، كل المقاعد شاغرة، وقائمة الطلبة عند النداء مزدحمة بالغائبين الذين رسبوا في امتحان (إلى الأبد)، ذلك أن كل مناهج الحب اعتمدت (إلى الأبد) أول درس في أبجدية العواطف، ونسيت أن الحب لا يعيش بغير الإحساس الدائم باحتمالية الفقدان، كم من الاستبداد، وكم من الطغيان في كلمتي (إلى الابد) فهل يولد الحب طاغية؟!!
كثيرة هي التساؤلات التي تطرحها الكاتبة، وتجيب عليها:
ما الذي يحتاج إليه الكاتب لإنجاز عمل إبداعي؟
هل يحتاج الكاتب إلى أن يتفرغ للكتابة لينجز رواية؟
كيف استطاع نجيب محفوظ أن يكتب رائعته تلك وهو يعمل موظفا بدوام كامل على مدى ثلاثة عقود؟؟
وكيف كتب همنغواي أعمالا فاز بفضلها بجائزة نوبل وقد عمل لسنوات مراسلا حربيا وأخذته الحياة من كل صوب؟
أيحتاج الكاتب إلى أن يعمل في شأن آخر غير الأدب كي يشتهي الكتابة إلى حد تصبح معه هي الشغل الشاغل لوجدانه؟؟
بعد كل هذه الأسئلة بدت لها أن الشجرة أنسب مكان لتكتب فيه، فهي في متناولها، وتناسب مزاجها، فتصنع لها بين الأغصان مأوى للكتابة، تتعربش عليه كل يوم لتبلغ مكتبها المعلق بين الأغصان، ولعل في تسلق هذه الشجرة حكمة، فعدا رفقة العصافير وشم الهواء العليل، هي فرصة لتقوم بمجهود رياضي يكسبها الخفة ومرونة الحركة.
وتعترف الروائية (أحلام) بأن أعظم الأفكار عثرت عليها وهي تمارس أعمال المنزل. وتقارن نفسها بالروائية البوليسية (أجاثا كريستي) التي سبقتها واعترفت بأن أفضل وقت للتخطيط لكتاب جديد هو أثناء غسل الصحون.
كيف تركت (أجاثا) كل مجدها ولحقتها إلى المجلى؟؟ إن (اجاثا) وهي أمام المجلى تبحث بين السكاكين والشوك عن مخطط لجرائمها، فتقتل هذا، وتسمم ذاك، وتلقي بثالث من القطار!!!. أما (أحلام) فهي تبحث وسط صابون الجلي عن مفاتيح العشق، كي تطيل لهفة أبطالها وتفكر بطريقة رومانسية يوقع بها البطل بطلة الرواية في شباكه.
وتعد الكاتبة اختراع النت، مصيبة، حيث إنها كانت تتباهى بأنها سيدة العتمة، وانها كانت تشهر عزلتها، وترفض الظهور أو حضور أي مناسبة إعلامية، فإذا بها بعد دخول (النت) تعيش مدار النهار مع قوم راح عددهم يتكاثر، ويتضاعف في الفيسبوك، تضاف إليهم قبائل التويتر وعشائر الانستغرام. وما عاد من أمل في العودة إلى الحياة الطبيعية. فكلما همت باستعادة عافيتها بمغادرة الانترنت، جاءت تعليقاتهم تجردها من هذا الحق.
ومن روايتها (نسيان. كم) تعود بنا (احلام مستغانمي) إلى علاقتها الوطيدة مع صديقتها (كاميليا) التي أهدتها هذا الكتاب، لتضع حدا لحزنها على فراق رجل لا يستحق حبها. كانت تنوي أن تكتب الجزء الثاني منه ليكون معركتها مع الهجران، وأعطت رسائل كاميليا أرقاما وتسلسلا بنت عليه أحداث عشق بينها وبين رجل مجهول لفت انتباهها من خلال تعليقاته على منشوراتها.
تخاطب (كاميليا) قائلة (هذا الكتاب ليس من أجلك إذن، لكني أحتاج لأن أستعين بما بقي من شظايا قصتك لكتابة نص شهي، والقيام بإعادة إعمار عاطفي ألحق بها الحب أقصى أنواع الدمار. في لحظة ما، راودتني فكرة الاستعانة برسائلك تلك لكتابة رواية).
اختارت (أحلام) موضوع الفراق لأنه أصبح ظاهرة متكررة وخاصة أثناء الحرب.
فالفراق لم يعد حدثا رومانسيا، بل حدث جماعي، ونكبة مروعة لشعوب نزحت، هائمة على وجهها بين القارات، فالكل مفارق لا محالة.
وقررت الكاتبة إغلاق صفحتها عالفيسبوك لتتفرغ لإعداد هذا الكتاب، وكثرت التعليقات التي أخذت ترجوها أن تبقى على تواصل معهم، أنهم جمهورها، ومحبوها. ومن بين هذه التعليقات أثار دهشتها تعليق من رجل لا تعرفه، يقول فيه: (عمري خمسون لهفة… ميزتي الأنفة، وعلامتي الفارقة انشغالي بك، منذ سنوات أواعد روحك هنا، أتصفحك… أتأملك… أعايشك. لا تغيبي بذريعة الكتابة، ربما أخلفت روايتك الأجمل. جئت سيدتي أهبك قبلة النسيان).
لقد اجتمعت في حروفه الأنيقة عناوين رواياتها السابقة، ما جعلها تتخبط بولع لتعرف هوية ذلك الرجل الذي استعمل ما يشبه لغتها، فهذه أول مرة يتوجه لها فيها قارئ بهذه الصيغة، ويضع في تعليقه بطاقة تعريفه، عمره، صفته، لهفته، مرفقة بأمنيته، بل إنه رفع سقف الأمنيات عاليا ومعها سقف الغرور أيضاً (جئت سيدتي أهبك قبلة النسيان) معقول؟؟؟ من يخال نفسه ليتحدث وكأنه مكلف من منظمة إنسانية لنجدتها مستخدما قصيدتها (أيها النسيان هبني قبلتك).
لم تكن تعلم أنها ستتورط بحبه، فبدأت تحاوره وتحادثه وتدخل يوميا إلى صفحته على الفيسبوك، فبدأ عنصر التشويق في قصصه المفخخة بمكره الرجولي.
أثارتها الروح الساخرة لهذا الرجل، أحبت غروره وكبرياءه، اعتداده بنفسه. أخبرته بنيتها للكتابة عن الفراق، فنصحها قائلا: (لا تكتبي عن الفراق إلا عن ألم، ثمة فراق يكسر القلب، وفراق يكسر العمر، وأقساها الذي يكسرك عن غدر. إن لم تعيشي إحدى هذه الحالات فلا تكتبي عن الفراق. ماذا تعرفين عن الفراق إن لم تتشظي وتنشطري وتحزني وتندمي مهما كان قرارك؟)
وبعد التمعن في رسائل صديقتها (كاميليا) تكتشف بأن الذي أحبته وتعلقت به هو نفس الرجل الذي هجر صديقتها، وأذاقها مرارة الهجر والحرمان فكتبت لها (أنسيه كما ينسى الرجال).
إنه (عماد) بطل (نسيان. كم). حين قرأت له هذه العبارة، أدركت أنه هو، «ما كنت أريد من العالم كله إلا أنت، واليوم أقول: لك العالم كله إلا أنا».
بهذه الفصاحة، واللغة الانيقة، عرفته. فتعمدت عدم لقائه، وإنهاء كل علاقتها به.
وأخيراً للكاتبة سؤال مهم: لماذا يفترق العشاق؟؟؟
لماذا نهجر؟
تجيب: «نهجر عندما نغار حتى تعمينا الغيرة عن رؤية من نحب.
ونهجر عندما نثق بالآخر إلى حد لا نعود نرى الخطر القادم الذي يهدر الحب
ونهجر عندما يزيد الحب عن حده.
ونهجر عندما ينقص منسوب الحب داخل الحب.
نهجر عندما يصبح حبنا خطراً علينا، خشية أن نموت بصاعقته.
ونهجر لأن التيار الكهربائي بيننا انطفأ.
ونهجر لفرط الشوق الذي يجرفنا تياره ولا مصب لشلاله.
ونهجر لموت الشوق حين تجف منابعه تدريجيا.
نهجر لفرط الحرية… كما لفرط العبودية.
لفرط الوفاء… كما لفرط الخيانة.
لفرط حاجتنا… كما لفرط استغنائنا.
وهنا يحتار القارئ لهذا الكتاب، بعد هذه النصائح السرمدية،
هل من حقه أن يعشق؟؟!!
وما فائدة هذا العشق إذا كان سينتهي بعد ثلاث سنوات؟
ومادام العشق خطيراً لهذه الدرجة، فلماذا لا نهرب منه تحسبا وخوفا من فراق مؤلم؟
وفارقت الكاتبة (أحلام) كتابها فورا قبل أن تعيد قراءته، وأرسلته إلى الناشر، ليكون أول تمرين لها في الفراق.
فارقته قبل أن تتشبث كلماته بها.
وأصبح الكتاب طازجا شهيا نقبل على قراءته بنهم وحب قبل بداية العام الجديد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن