من دفتر الوطن

الهوية بين الواقع والمشتهى

| حسن م. يوسف

أحد المثقفين السوريين نظم استفتاء على صفحته في الفيس بوك ينص على ما يلي: «بكل صراحة، هل تعتقد أن غزو واحتلال العرب والمسلمين الطويل لسورية لمدة 1400 سنة كان إيجابياً ومفيداً وبناءً أم كان سلبياً وضاراً ومدمراً؟»
وقد تقصدني الرجل شخصياً بهذا السؤال من خلال إرساله لي بالبريد. ونظراً لأنني أعتقد أن البشرية قد تقدمت بالأسئلة أكثر مما تقدمت بالأجوبة، كما كان يقول الصديق المفكر برهان بخاري، فسأحاول التصدي لهذا السؤال رغم صياغته الاستفزازية الفجة.
أعتقد أن الهوية كائن حي، سواء كانت هوية فردية أم هوية وطنية، وهي مثل جميع الكائنات الحية، تنطوي على مكونات ثابتة وعلى مكونات متحولة.
القواميس تعرف الهوية بأنها «العوامل التي تثبت أن شخصاً مسمَّى هو عينه». والمفكرون يرون أن «هويتي هي ما يجعلني غير متماثل مع أي شخص آخر»، وقد جاء في كتاب «التعريفات» للجرجاني، أن الهوية هي «أن يكون الشيء هو هو».
يعتبر الدين واللغة والعادات والتقاليد والتاريخ المشترك من المقومات الثابتة للهوية وتعتبر الآداب والفنون من مقوماتها المتحولة.
وما يجري هو أن كل شعب يقوم بترتيب مقومات هويته حسب وعيه وظرفه التاريخي. ففي المجتمعات الرجعية ذات الثقافة الماضوية ينظر إلى الهوية من منظور عكسي، أي كمعطى ثابت ومغلق يختزل الثقافة إلى الأبعاد التي من شأنها أن تجعل الأفراد متشابهين.
وهذه العملية الانتقائية لا تتم في الأوساط المحافظة وحسب بل قد نشهد مثيلا لها في الأوساط المتحررة التي تنادي بالتعددية والعلمانية. ففي أوقات الأزمات، كالوقت الذي نعيشه، نرى أن بعض الأفراد والجماعات يعلنون انتماءهم لجزئية متميزة من ثقافتهم وتاريخهم في محاولة للهروب من واقعهم المأزوم بغية التملص من مسؤولية تغييره.
من النكات المضحكة لواقعنا المأزوم أن يتساءل عربي باللغة العربية عما إذا كان أجداده غزاة لوطنه! وأن نسمع شخصاً هاجر قبل أعوام من حوران أو وادي النصارى إلى جبل لبنان وهو يعلن أنه ليس عربياً بل فينيقياً! غير أن أطرف النكات هي دعوة بعض مثقفي الأمازيغ لعودة العرب من حيث جاؤوا! وهي دعوة ساذجة تشبه دعوة من لا يعجبنا بالعودة إلى بطن أمه!
العلم يقول إنه لا يحق لأحد من بني البشر أن يدعي لنفسه نقاء النسب من الناحية العرقية. وهذا ينطبق على أبناء الأرض السورية أكثر من سواهم، لأن كل الأقوام والأعراق تصارعت وتعايشت هنا، أما من الناحية الثقافية فأنا أعتبر نفسي الوريث الشرعي لكل الحضارات التي تفاعلت وتصارعت على الأرض السورية. ويشاركني في هذا كل أبناء قومي. لذا أرى أن الفكرة القومية الجامعة لكل سكان هذه الأرض هي قارب نجاتنا جميعاً، شريطة عدم تكرار الممارسات الخاطئة التي تبيح للمكون الاجتماعي الأقوى أن يتسلط على المكونات الأخرى.
يجب أن ننفلت من قيود الماضي وأن نمارس الحوار العقلاني القائم على الاعتراف بالآخر لتحويل معطيات حضارتنا من قيدٍ يكبلنا، إلى أجنحةٍ نحلق بها إلى فضاءات المستقبل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن