يتحرك الموضوع الكردي في شمال شرقي سورية ضمن مساحة محسوبة سلفاً، فرغم أن الأزمة السورية أعطته مساحة مختلفة لكنه يبقى مشكلة لا يمكن النظر إليها ببعد إقليمي واضح، فالسوريون الأكراد ضمن المستوى السياسي على الأقل يملكون عوامل مختلفة عن إقليم كردستان العراق على سبيل المثال، والجغرافية التي ينتشرون عليها تمثل «مثلث الفصل» ما بينها تركيا والعراق وسورية، والحديث عن ثلاثة كانتونات في الشمال السوري الذي ظهر قبل ثلاث سنوات بقوة؛ كان يعني بأحد أوجهه تغيير الجغرافية التركية جذرياً وهو ما جعل القوات التركية لاحقاً تدخل لمنطقة الباب.
ورغم أن الانتشار الكردي في شرقي المتوسط هو حزام فاصل عريض على طول الحدود السياسية للدول، لكنه في سورية يمثل شكلاً يتمايز في الجغرافية التي تعتبر المنفذ الوحيد على البحر المتوسط، فالمنفذ البحري الذي يتحقق عبر سورية هو الشكل الوحيد الذي سيغير من شكل الإقليم عموماً، ويبدل من النظام الشرق الأوسطي عموماً، وربما لهذا السبب بقي الأكراد من دون كتلة مستقلة في عملية التفاوض، فتواجدوا ضمن باقي الوفود بشكل يوحي أنهم جزء من الحلول بين المعارضة والحكومة السورية، ولا يمثلون طرفاً ثالثاً كما هو الحال لأكراد العراق.
عملياً فإن الولايات المتحدة هي التي عارضت بشدة وجود الأكراد ضمن وفد مستقل، وخلال المرحلة الثانية من التفاوض في جنيف اعتبر أن حزب الاتحاد الديمقراطي حليف للحكومة رغم وجوده ضمن «هيئة التنسيق الوطنية المعارضة»، واتهمت عدداً من شخصياته بالتنسيق مع الرئاسة مباشرة، وهذا الموقف يشكل نقطة الارتكاز السياسي الأميركي رغم التحالف اللاحق مع الأكراد وتشكيل «قوات سورية الديمقراطية» بعد معركة عين عرب.
ضمن السيناريو الأميركي بعد عام 2015، ومع الدخول العسكري الروسي لسورية، كان من المفترض أن يشكل التحالف الكردي مع العشائر في سورية حالة قوية ضمن المعارضة السورية، وبديلاً من تشتت المعارضة التي مثلت فقط الوجه الإسلامي وأصبحت مسرحاً لجميع التنظيمات المتشددة، لكن اللافت هنا أن هذا السيناريو لم يتضمن تمثيلاً مستقلاً للأكراد، على الأخص في المرحلة التي تم فيها توحيد وفد المعارضة، إنما بقيت «قوات سورية الديمقراطية» حالة استثنائية ضمن المشهد السوري عموماً.
من الصعب قراءة الموقف الأميركي للسيناريو السابق وتطوراته، فبالتأكيد لم تكن واشنطن تريد افتراقاً كاملاً عن تركيا عبر فرض الأكراد ضمن مشروع مستقل، لكنها في الوقت نفسه لم تتعامل مع الأكراد فقط من أجل محاربة داعش حسب ادعاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فالسياسة الأميركية تجاه السوريين الأكراد حملت مؤشرين أساسيين:
– الأول ضمان التحكم بالعملية الروسية إلى سورية كي لا تصل إلى فرض واقع جديد على الحدود السورية العراقية، فدعم «قوات سورية الديمقراطية» فرض خطوطاً حمراء أمام روسيا، وجعل شرق الفرات وصولاً إلى الحدود العراقية بمأمن عن الانتشار الروسي.
– الثاني يدخل ضمن المرحلة الحالية للمعارك الذي يجعل التركي عاملاً مرجحاً وضامناً للحد من أي توسع في الدور الروسي، فأنقرة عملياً تشكل نقطة التأثير الأولى اليوم لجعل منطقة شرقي الفرات جغرافية للتفاوض بين روسيا وتركيا، وبالتالي فإن الانتشار للجيش السوري فيها لن يغير المعادلة لمصلحة روسيا لأنه يتم ضمن حدود أمان متفق عليها بين دول لقاء أستانا.
شرقي الفرات أو الجزيرة السورية سيشكل مساحة تفاوض شبيهة باتفاق الجنوب الغربي لسورية، حيث ينتهي الوجود المسلح خارج إطار الدولة، وفي المقابل يبقى مساحة مفتوحة لخلق تفاوض لاحق لا يضر بـ«إسرائيل» بالنسبة لاتفاق جنوب غربي سورية، ولا بالواقع الخاص بالحدود العراقية السورية التركية لما يحدث اليوم في الجزيرة السورية، وستصبح منطقة حرجة للنظام الشرق الأوسطي عموماً.