ثقافة وفن

الشعر لا يحنط في قوالب نظرية جامدة!

| صبحي سعيد قضيماتي

نشر الصديق الأديب راتب الحلاق في هذه الآراء عن الشعر على صفحات التواصل: «يحاسب الشاعر في مملكة الشعر، وليس في محكمة الأخلاق، أو السياسة… لنا شعره، وله (وعليه) سلوكه».. فما مقومات وأسس مملكة الشعر؟ ولأن صفحات التواصل، أصبحت مصدراً من مصادر (الثقافة والحوار)، وامتلأت بآراء وأفكار، تحتاج إلى حوار عميق، لوضع النقاط على حروف بعض الآراء التي تتناول الشعر، أو الإبداع بصورة عامة. وأود هنا أن أحاور وأناقش ما كتبه صديقي راتب الحلاق الذي أراه صاحب آراء راقية، وليس هدفي أن أشاكسه أو أجادله لأدحض آراءه، أو أخطئه.. بل لكي نغني موضوع الشعر بعض الشيء، لأن مثل هذه المواضيع، أوسع من أن يستوعبها كتاب أو أكثر..

أولاً يجب أن نأخذ بعين الاعتبار، أن الشعر لا يمكن حصره في نظرية واحدة، تقبع في مفاهيم أحدنا.. فالشعر أوسع من أن يحنط، أو يكون سكة حديد جامدة، تسير عليها الحركة الشعرية كلها، من ألفها إلى يائها، باتجاهاتها العديدة المختلفة، أو المتناقضة في العديد من الخطوط، أو مرتكزاتها النظرية… وأعتقد أن الشعر ينطلق من قول المتنبي: (تأخذ الآذان منه على قدر القريحة والعلوم).. ولا يمكن أن تكون قرائح عشاق الشعر كلها سواسية كأسنان المشط… ولا ننسى قول المتنبي في أي حديث عن الشعر:
إن بعضاً من القريض هذاء/// ليس شيئاً، وبعضه أحكام…
وبماذا نفسر عبارة (هذاء ليس شيئاً،) وبعضه أحكام..؟ فالأحكام هي القيم الراقية التي يطرحها الشاعر… وهو أهلٌ لطرح مثل هذه القيم.. ولا يأتي القول إلا من أصحاب خبرة ــ ذوي مضامين راقية…
وفي كثير من الأحيان، تلعب القيمة الفكرية دوراً كبيراً، تجعلنا ننسى القيم الجمالية التي يراها بعضنا أنها تحدد القيم الشعرية.. فأين القيم الجمالية في مثل هذا البيت: (ومن يكُ ذا فم مر مريض /// يجد مراً به الماء الزلالا). هل القيمة في هذا البيت في المضمون البليغ، أم في الشكل البليغ جمالياً؟ فالبيت يصور حالة مرضية تصويراً واقعياً، يكاد يكون فوتوغرافياً.. وأحياناً في التصوير الفوتوغرافي بلاغة راقية. أليس شعراً أن نقرأ لمحمد الماغوط: (لقد عجزت أن أعلم عربياً واحداً أن يصعد إلى الباص من الأمام، وينزل من الخلف، فكيف أعلمه الثورة؟) أليس هذا شعراً؟… أنا أرى قمم الشعر في هذه الأسطر، ولو لم يشاركني به كل عشاق الشعر، أو المهتمين به.
كيف أفهم هذا القول عن الشعر: «يحاسب الناقد النص فنياً وليس أخلاقياً أو أيديولوجياً ويترك للجهات الأخرى محاسبته على سلوكه وأقواله، والناقد ليس شرطياً ولا رجل دين». هل يمكن أن أفصل الشكل عن المضمون، ليس فقط في مجال الشعر، بل في أي مجال من المجالات، حتى مجال الطعام؟ فالشكل مطلوب، ولكن ما الفائدة من الطعام، مهما كان مغرياً، إذا لم يكن له قيمة غذائية تفيد الصحة؟.. وما الفائدة من جمال المرأة، مهما كان ساحراً، وجذاباً، إذا كانت فقيرة المضامين..؟ ولسنا هنا في صدد محاسبة الناس، لكننا معنيون بسلوكهم، لأن سلوكهم جزء مهم من واقعنا الاجتماعي والأخلاقي.. فشكلهم لا يهمني بقدر ما يهمني سلوكهم الأخلاقي..
من قال إن: «الناقد يحتكم إلى قوانين الجمال، وإلى مدى تمكن الفنان منها، وكثيرا ما أعجب الناقد بنتاجات فنية هو ضد محتواها، وكثيراً ما صنف أعمالاً في غاية الرداءة الفنية مع أنها تنتمي إلى الفكر الذي ينتمي هو إليه». هذه أقوال وآراء تحتاج إلى براهين وأمثلة واضحة. (أكيد أن للفن مقاييسه ومعاييره، وللأخلاق معاييرها وقيمها) لكن هذه المقاييس هي الحامل للمضامين.. ولا يمكن أن تؤكد أهميتها إن لم تبرهن على تكاملها مع مضامين راقية.. ولا يمكن أن يكون أي نص في قمة الإبداع الفني، وفي أحط المستويات الأخلاقية في آن واحد، ولا يمكن أن يكون العكس صحيحاً أيضاً. فهذا الكلام يحتاج إلى براهين أيضا، قد نختلف حول أهميتها ومدى صحتها. ولا يمكن أن ترقى المضامين والقيم، ما لم يتكامل الشكل والمضمون، إذاً لا يمكن أن ترتقي القيم، إلا بأساليب فنية متميزة.. ويبقى المضمون هو الأساس. فهل استطاع الشاعر أن يحمّل القيم التي آمن بها، بأساليب فنية متميزة، أم إنه قصّر في إعطاء قيمه ما تستحقه من الأساليب الفنية القادرة على وضع هذه القيم في مكانها المرموق؟.. هنا تكمن أهمية النقد.. ولست من المؤمنين بمحكمة الشعر الفنية، لأن الأساليب الفنية هي خادم المضامين.. فإن عجزت هذه الأساليب الفنية عن إعطاء المضامين حقها، فهذا عجز من الشاعر، وقد لا نسميه شاعراً، بل نسميه شويعراً أو شعروراً متواضعاً، لم تنضج تجربته، أو لم يرتق بتجربته الفنية.. وأهمية وقيم الفن الراقي تكمن في قدرة المبدع على إعطاء القيم التي آمن بها، ما تستحقه من الأساليب الفنية، لتكون تلك القيم، قادرة على القيام بدورها على أحسن وجه. ونؤكد أن الفن في كل حقول، لا يمكن أن يكون شكلا.. فالفن يحمل رسالة (ونختلف حول أهمية هذه الرسالة، من عمل إلى آخر) فالشاعر حكيم فنان، وإن اختلفت مراتب الفن من شاعر إلى آخر. وتختلف وتتنوع الرسائل لدى الشاعر.. فهي فكرية أو أخلاقية.. فماذا نقول عن هذا البيت لأحمد شوقي: (شعوبك في غرب البلاد وشرقها //// كأصحاب كهف في عميق سبات) وهذا البيت بسيط جدا.. ليس فيه تلك الأساليب الفنية المتميزة.. لكنه يحمل قيماً فكرية وتاريخية تفي لأن تؤكد الفكرة دورها على أحسن وجه.. لأن الفكرة تحمل هدفاً تاريخياً وأخلاقياً واجتماعياً وسياسياً.. ونختلف أحياناً على القيم التي يطرحها هذا الشاعر أو ذاك.. فأنا لا أتفق مع أحمد شوقي في ما قال: (وعلمنا بناء المجد حتى أخذنا إمرة الأرض اغتصابا) ولم أستسغ الجمع بين (بناء المجد، مع إمرة الأرض اغتصابا) وأفضل أن نقول(انتجابا) بدل (اغتصابا). فالاغتصاب كلمة لا تدل على معنى سام.. والانتجاب هو الاصطفاء.. لكن هل هذه الكلمة تنقص من قيمة وأهمية قصيدة أحمد شوقي.؟ وفي الفن لا يوجد سوء فهم، بل هناك قرائح تقرأ، وكلٌّ يفهم حسب قريحته. والشعر لا يفصل الشكل عن مضمونه، والنقد الفني للشعر يسلط الضوء على قدرة الشاعر وبراعته في إيصال رسالته، انطلاقاً من قدراته اللغوية والفنية التي تحمل مضمون رسالته. والمضامين النبيلة، تعطي طاقة فنية لا يستهان بها للرسالة التي يحاول الشاعر إيصالها لقارئه..
والشاعر الحقيقي يستطيع أن يوصل رسالته إلى قارئه بأرقى الأساليب الفنية وأكثرها إبداعاً وجدة.. لذا حاز لقب شاعر بجدارته، بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى! والمضمون ومهما كانت الآنية جميلة، يبقَ الهدف جودة الطعام، والفائدة التي يحملها إلى الجسم..
الشعر نداء المتمرد وغير المدجن في الذات، نداء ما لا يقبل الترويض أو الاحتواء، نداء الحرية والمبادرة، إنه قراءة فذة في أغوار النفس البشرية في نزوعها إلى عالم من الفتنة والغواية والغبطة واللذة…. عالم متناقض مع قيم المدينة الفاضلة، لأنه، ببساطة شديدة، ينطلق من قيمه الخاصة، وهي قيم فاضلة هي الأخرى، وإن بدت، في لحظة من اللحظات، أنها رجيمة وشاذة.
قيم الشعر تثور على العادي والنمطي والمألوف لمصلحة المدهش والطريف والغريب، وتحاول أن تنتقل من الراكد والمستقر إلى الجديد والمختلف، الذي قد يبدو للبعض أنه فوضى عارمة، وما هو بفوضى، ولكنه رؤية جديدة تعيد ترتيب الوجود ليصبح أكثر جمالاً وعدلاً، وأقل قبحاً وظلماً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن