الأولى

الواقعية السياسية

| وضاح عبد ربه

منذ أسابيع عدة، وخلال دردشة مع صديق صحفي فرنسي كان قد خرج للتو من لقاء، غير معلن، جمعه وعدداً من زملائه، مع مسؤول خليجي كبير يتردد باستمرار إلى العاصمة الفرنسية للقاء الإعلاميين وشركات الإعلان في بادرة لتحسين صورة بلده أمام الرأي العام بعد الهزات المتتالية التي تعرضت لها بعض دول الخليج نتيجة دعمها للإرهاب والمجازر التي ترتكبها في اليمن وغيرها من البلدان، سألت صديقي الصحفي عما قاله ذاك المسؤول تجاه سورية؟ وكان الجواب: إن المسؤول الخليجي الشاب «نسبياً» قال للصحفيين الذين حضروا اللقاء «إن دولته تنتهج سياسة الواقعية، وهذا يعني الاعتراف بانتصار الرئيس بشار الأسد ومن ثم استئناف العلاقات معه، ومع الشعب السوري عموماً»، وعندما سأله الصحفيون: أيعني هذا أنكم خسرتم الحرب على سورية؟ فأجاب: «الواقعية السياسية تتطلب أن أجيبكم بـ«نعم»، وعلينا أن نعود إلى سورية ونحاول استعادتها إلى الصف العربي لإبعادها عن الفلك الإيراني».
كلمات هذا المسؤول الخليجي، تذكرنا بالبيانات التي صدرت مؤخراً وتحديداً عقب إعادة افتتاح سفارة دولة الإمارات في دمشق، صحيح أنها لم تتضمن أي كلمة تشير إلى الهزيمة وإلى انتصار الرئيس بشار الأسد والسوريين، لكن مجرد صدورها ومن وزارات خارجية دول كانت معادية لسورية، هو إقرار بالهزيمة على أن يأتي الاعتذار لاحقاً، بأشكال مختلفة ربما، ومن خلال ضخ المال في شرايين الاقتصاد السوري ليستعيد عافيته.
طبعا لا جدوى من مناقشة الخليجيين بما يعتقدونه «فلكاً إيرانياً» أو «هلالاً شيعياً»، فأغلبية هذه الدول باتت ترى في إيران العدو الأخطر بالنسبة لهم ولوجودهم، وفي الكيان الصهيوني الصديق العزيز الذي يوفر الحماية لهم ولعروشهم، وهذا بكل تأكيد ليس وليد أفكارهم أو معلوماتهم، بل هي سياسة الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل ذاتها التي لا تريد لإيران الوجود أساساً، لعدة أسباب أهمها دعم حركات المقاومة وعدم الاعتراف بإسرائيل وتصميمها على تحرير القدس من الاحتلال الصهيوني.
وبالعودة إلى الواقعية السياسية التي نتمنى أن تكون بالفعل نهجاً لدول الخليج، لا بد لنا من تذكيرهم بأن سورية لم تكن يوماً في فلك أي دولة من دول العالم، ولم تكن جزءاً من أي محور سوى محور مكافحة الإرهاب ودعم الشعوب في استعادة حقوقها واحترام القانون الدولي، وهذا لا يجعل منها في أي حال من الأحوال دولة تابعة، بل على العكس كانت وأثبتت خلال هذه الحرب أنها مستقلة في قرارها وفي خياراتها، وأن سياسة الرئيس بشار الأسد، وعلى عكس الكثير من الدول العربية والغربية، هي ذاتها سياسة الشعب السوري، الرافض منذ عقود لأي تبعية أو خنوع، وكان وسيبقى الداعم الأكبر للمقاومة ولسيادة الدول واستقلالها.
ما يثبت صلابة الموقف السوري واستقلاليته، هو كل ما قُدم للقيادة السورية من عروض، ومنها المغري جداً، للتخلي عن المقاومة ورفع رايات الاستسلام، فرفضتها وهي على يقين أن الرفض له ثمن، وكانت على استعداد لتسديده، وسددته، لكن بالنسبة لدمشق وللسوريين عموماً، فإن ثمن الرفض كان أقل بكثير من ثمن الموافقة والاستسلام، وتفتيت المنطقة إلى دويلات وكيانات لا قرار لها.
وفي الحديث عن العلاقة مع إيران، فدول الخليج تدرك جيداً ما الموقف السوري تجاه هذه العلاقة، فعندما كانت هذه الدول جميعها من دون استثناء تدعم صدام حسين في حربه على إيران، كانت سورية وحدها تدعم طهران، وحاول العرب آنذاك إخضاع سورية وحاصروها اقتصادياً ومالياً، لكنهم أخفقوا في ممارسة أي ضغوطات عليها لتغيير موقفها، وحين تبين وثبت لهم أن سورية كانت على صواب وكانوا هم على خطأ، عادوا إلى دمشق، كما عادوا في الأمس، مطالبين بصفحة جديدة.
العلاقة السورية الإيرانية ليست علاقة تبعية كما يحلو للبعض تسميتها، هي علاقة ندية وتحالف قديم جداً، لا يمكن لأحد التأثير فيه لكونه مبنياً على مصالح مشتركة ليس بين الدولتين فحسب بل تجاه شعوب المنطقة وقرارها السيادي، ولمواجهة مخططات العدو التوسعية والذي سيبقى عدواً ما دام يحتل الأرض ويرفض الاعتراف بالحقوق ومبادئ الأمم وقرارات شرعيتها.
ويمكن لأي متابع لما جرى في سورية أن يلاحظ أنه على الرغم من الحرب والدمار والشهداء، وعلى الرغم من الخيانات البشعة جداً، بقيت فلسطين بوصلة السياسة السورية، وتجتمع معها في ذلك إيران وحزب الله، على حين تعمل دول عربية، وخليجية تحديداً، على تصفية هذه القضية التي استشهد من أجلها مئات الآلاف من العرب، والمضي في التطبيع مع العدو، لتمكينه مما تبقى من كرامة عند العرب.
الموقف السوري تجاه فلسطين والعرب عموماً إن دل على شيء، فهو يدل على صدق ونبل السياسة السورية التي تنطلق من المبادئ وليس من المصالح، وتحترم وتقدس الدماء التي سالت لتبقى سورية محصنة، لا أن تتحول إلى دولة فاشلة وتابعة ومجردة من أي قرار.
وفي حال استوعب الخليجيون هذه المعادلة، يمكن لهم تغيير خطابهم تجاه سورية والتعلم منها المعنى الحقيقي للواقعية السياسية التي تبنى على قرار ورغبة الشعوب وليس على قرارات واشنطن وأماني تل أبيب.
دمشق تكاد تكون أكبر مدرسة في العالم بالواقعية السياسية، هذه الواقعية التي جعلت من عودة السفارات الخليجية إلى دمشق حدثاً عادياً بالنسبة للقيادة السورية، وربما أقل من ذلك، وهذا ما بدا واضحاً من خلال التمثيل المنخفض للخارجية السورية في «حفل» الافتتاح الذي كان حدثاً استثنائيا لوسائل الإعلام فقط، وليس للساسة السوريين، فواقعية دمشق أنها كانت تدرك أن من غادرها سيعود إليها عاجلاً أم آجلاً، أما واقعية الآخرين فكانت أن «النظام لن يصمد إلا لأسابيع».
مع السماح بعودة من غادر وغدر، تكاد دمشق تقول لهم: أهلاً بكم في عاصمة الواقعية السياسية، عاصمة الصمود والتحدي، عاصمة الإبقاء والشموخ والكرامة، أهلاً بكم في مدرسة السياسة، تلك التي جعلتنا نربح الحرب على ١٢٠ دولة وعلى كل ملياراتكم ومرتزقتكم.
أهلاً بكم متى شئتم، لكن بصمت كي لا تزعجوا شهداءنا الذين قدموا أغلى ما لديهم لحماية ديارنا والديار العربية ولهزيمة رحلة صيدكم ومؤامراتكم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن