ثقافة وفن

قيامة الصخور فيلم «ديكودراما» فيه التوثيق والتمثيل … سليم المير لـ«الوطن»: رسالته الحقيقية… هي تثبيت هوية الانتماء إلى تاريخنا وأرضنا ولغتنا

| سوسن صيداوي

وهل تقوم الصخور في وجه الاضطهاد؟. الأخير لم يُخبّئ وجهه عما يمرّ أمامه عبر التاريخ: مدن، قرى، عائلات، وحتى أشخاص…. إلخ. الاضطهاد عملته بوجه واحد، فأهدافه لم تتغير على الرغم من تحالف الزمن معه ومَدِّه بالأوقات الطويلة. يأتي ليمحي، يأتي ليضمحل أمامه كل شيء وليصبح كدخان سراب. وبالتالي يأتي الاضطهاد ليغيّر هوية، ترسّخت وتعمّقمت أزمانا وبصمت، بالحيوات المارة من بيوتها، سنين أعمار لعائلات عاشت وكبّرت وعمّرت حضارات ناطقة وأخيراً بلغات… ومنها اللغة الآرامية. نعم. الصخور تقوم كي تحكي حكاياتها الماضية والحاضرة. تقوم كي تخبرنا بضرورة التمسّك بما لنا… لأنا لنا كل شيء، لنا كل الأرض وكل التاريخ وكل الحضارة، فنحن السوريون ولنا الكل من هذا الكون الفسيح.

إذاً قام الصخر بفيلم (قيامة الصخور) للمخرج سليم المير، كي يخبرنا عن اضطهاد القديسة (تقلا)، واضطهاد المسيحية واللغة الآرامية، ليتمدّ المخرج بالزمن إلى سوريتنا الأم الحاضرة، وما لحقها من اضطهاد خلال سنوات الأزمة السبع، وعلى الخصوص من المكان نفسه، من معلولا. يأتي الفيلم ليكون وثائقيا دراميا، (قيامة الصخور) ناطق باللغة الآرامية، يحكي لنا عن حياة القديّسة(تقلا) وأراد المخرج المير بأن يحمل العمل بكل مضامينه، رسالة إنسانية وتاريخية، تؤكد ضرورة التمسّك بالهوية السورية الموروثة منذ حضارة توغل بالقدم. تمّ تصوير الفيلم في الأرض التي عاشت وتوفيت بها القديسة، وهي بلدة معلولا، كما تجدر الإشارة إلى أن العمل قد تُرجم إلى عدة لغات منها العربية والروسية والإنكليزية والفرنسية، كي يتوجه إلى الآخر في العالم، مؤكداً مضمون رسالته الإنسانية التي يحملها على مدار 57 دقيقة، مستضيفا أحد عشر ضيفا، في جوّ من الموسيقا التصويرية اختارها المخرج من الحضارة السورية القديمة مع إعادة توزيعها لتتوافق مع العمل.
للمزيد حول التفاصيل من ممثلين وسيناريو وقصة الفيلم وربطه بين الحاضر والماضي نترك لكم التفاصيل من خلال حوارنا مع المخرج سليم المير.
عن قصة الفيلم

أشار المخرج إلى أن فكرة الفيلم كانت حاضرة له منذ أكثر من ثلاث سنوات سابقة، وعن قصة الفيلم وتأليفها قال: «لقد قمت بصياغة الفكرة سيناريو على ورق ووضعت الخطوط العريضة مؤلفا القصة منذ ثلاث سنوات ونصف السنة تقريباً، وقام بتنقيح النص الدكتور يوسف موصللي، وأحب أن أشير هنا إلى أن مذكرات القديسة (تقلا) مكتوبة بصيغة قريبة من الشعر، لذلك تولى أيضاً د. موصللي مهمة الصياغة الأدبية للنص. وبالطبع أنا أتناول حياة القديسة (تقلا) وهي محور الفيلم وعموده الفقري، وقد نسجنا حياتها ضمن محاور توثيقية. فالفيلم (ديكودراما) أي يعتمد على التمثيل والتوثيق. ومن خلال حياة القديسة تقلا استطعنا أن نوثق مجموعة قصص مرتبطة بها».

إنسانية الفيلم بأحداثه
بداية أوضح المخرج سليم المير أن الفيلم يتناول أربعة محاور«المحور الأول قصة حياة القديسة (تقلا)، والمحور الثاني تاريخ اللغة الآرامية، والمحور الثالث هو معلولا كبلدة تاريخية كيف بنيت منذ وجود الإنسان فيها وعن الآثار الموجودة هناك، والمحور الأخير يتحدث عما حصل في البلدة من أحداث خلال الحرب السورية بدخول الإرهابيين إليها، وكيف تحررت البلدة». وهنا يذكر المير أنه كان في السابق يعمل في مجال الأفلام الوثائقية التي تتناول الحرب السورية، ولكن فيلم (قيامة الصخور) هو أول فيلم لا يتناول فيه الشق العسكري فهو إنساني بحت، ويتابع «تناولت في الفيلم على التحديد الشق الإنساني، من ناحية معاناة أهالي معلولا، وفي الفيلم مقابلات مع شخصيات مدنية -أحد عشر ضيفاً- كانت كلّها موجودة أثناء دخول الإرهابيين للبلدة، ويتحدثون كيف استهدفت الكنائس وكيف أجبر الناس على تغيير دينهم، ومنهم من أصيب وخسر من أهله وناسه وأحبائه، ومنهم شهود عيان تحدثوا عن دخول المسلحين أو تحدثوا عن معاناتهم معهم، وأيضاً بينهم من تحدث عن الدمار الذي خلّفه هؤلاء المسلحون. إذاً جاءت فكرة الفيلم بالتركيز على الإنسان بشكل كبير، وانطلقت من تاريخ تحرير معلولا وكل ما رأيته هناك بعد خروج المسلحين منها، والدمار الذي حصل في الأديرة الموجودة فيها والصلبان الخشبية التي حُرّقت، وهذه الصورة هي من أكثر الصور التي ترسّخت في ذهني».

لغة الفيلم
فيلم (قيامة الصخور) ناطق باللغة الآرامية ومترجم إلى عدة لغات منها العربية والروسية والإنكليزية والفرنسية، وعن سبب استخدام اللغة الآرامية تحدث المير «الفيلم ناطق باللغة الآرامية لأنها اللغة التي كانت تُحكى في تلك الفترة، هذا من جهة ومن جهة أخرى لأن أهل معلولا ما زالوا حتى اليوم يتحدثون بها، وأيضاً من الأسباب يمكنني أن أضيف إننا في الفيلم وثقّنا تاريخ اللغة الآرامية، فجزء كبير من الفيلم يُعرِّف المشاهد على اللغة الآرامية كيف نشأت وتطورت وكيف كُتبت وأنواع الخطوط واللهجات التي تفرّعت منها. وهنا أحب أن أشير إلى أن إحدى اللهجات التي خرجت من اللغة الآرامية، هي اللهجة النبطية التي هي جذر اللغة العربية التي نستخدمها اليوم، لذا وثّقنا كل ما له علاقة بهذه اللغة الغنية، وبالطبع تمّ التوثيق من خلال خبراء يدرسون اللغة الآرامية، وهم كانوا من بين ضيوف الفيلم ويظهرون فيه، ومن الأسماء: إلياس جدرة وجورج زعرور وهم من أبناء المنطقة، وأيضاً رؤساء الأديرة الثلاثة حيث يتحدثون عن تاريخ الأديرة الموجودة في معلولا، كما أننا استعنا بأبناء معلولا ليتحدثوا عنها، ومنهم من تحدث عن تاريخ معلولا والأديرة أيضاً.
هذا واستطرد المير في حديثه كي يخبرنا عن الصعوبة التي واجهت الممثلين في حفظ اللغة الآرامية والنطق بها في أدوارهم التمثيلية في الفيلم قائلاً لقد شارك في الجانب الدرامي من الفيلم كل من الممثلة (عليا سعيد) التي مثلّت دور القديسة (تقلا) وهي الشخصية المحورية في الفيلم، والممثلة (ريم مقدسي) التي لعبت دور السيدة العذراء، وهناك شاب-ليس بممثل محترف-كان لعب دور بولس الرسول الذي بعث (تقلا) إلى معلولا.
وبالطبع لقد واجه الممثلون صعوبة بالتحدث باللغة الآرامية، وتدرّبوا كثيراً ليجيدوا أدوارهم، ولأنهم من خريجي المعهد العالي للفنون المسرحية، فهم يمتلكون أدوات وقدرات تعبيرية جيدة، لذلك استطاعوا أن يوصلوا اللغة والمشاعر بالشكل الصحيح».

بين (تقلا) والإرهاب…
معلولا بالاضطهاد نفسه
الفكرة ليست تكريسا دينياً لمرحلة مرّت بها المنطقة، الفكرة انطلقت من عذابات وبطش حلّ بالإنسان السوري الذي عاش وذاق الويلات لأنه فقط يحمل هوية حضارة امتدّت لآلاف السنين، من هنا كان الباعث للفكرة، فالانتماء السوري حورب وقمعت الهوية وحتى اللغة الناطقة باللسان اضهدت، واعتكف الأهالي والمتنورون بالمغاور والكهوف لأنهم باقون على انتمائهم البالغ بالعمق حتى اللحظة، فالحصار والحرب ذاتها، وللمزيد عن هذه النقطة الأساسية في الفيلم يشرح أكثر مخرجه المير«إن معلولا عبر الزمن تعرضت لحصار كبير واللغة الآرامية أيضاً تعرضت للاضطهاد، ففي كل العالم لا توجد إلا ثلاث قرى سورية تتحدّث هذه اللغة، وهنا علينا أن نسأل أنفسنا: ماذا حصل حتى تراجعت هذه اللغة؟، ومَن المسؤول عن وصولها إلى هنا؟، ومَن المسؤول عن منعها من أن تُحكى كلغة رسمية؟. لقد كانت اللغة الآرامية اللغة الرسمية في مرحلة من المراحل في كل من إيران ومصر. إذاً كل هذا الاضطهاد والحصار هو حاضر ويحكي عنه كل محور في الفيلم، حتى إنني قمت بالربط بين هروب القديسة (تقلا) من طريق الفج، ودخول المسلحين إلى معلولا أيضاً من منطقة (الفج) نفسها، فكل ما حصل قمت بربطه عن طريق فلاشات قصيرة كي نوصل الرسالة التي نريدها للمشاهد، بمعنى أن كل ما حصل في حياة القديسة (تقلا) وما حصل في اللغة الآرامية وما عاناه أهالي معلولا منذ زمن، هو تاريخ مكرر وربطناه بدخول المسلحين وتخريبهم بلدة معلولا».

غاية الفيلم ورسالته
فيلم (قيامة الصخور) قائم على رسالة إنسانية حقيقية تهدف إلى التمسك بالأرض والتاريخ واللغة، إضافة إلى الكثير من المعاني الأساسية في حياتنا التي تحدث عنها المخرج تباعاً «منذ عام 2011 ومع بداية الأزمة في سورية كنت أنادي دائماً بتأكيد تثبيت انتمائنا لسورية، فالغرب يشتغل وفق مصالحه، لذا قدّم تسهيلات للكثير من المسيحيين-على الخصوص- لمغادرة سورية بغض النظر عن الظروف التي مرّ بها هؤلاء الأشخاص، وبالفعل هناك البعض من السوريين الذين اضطروا للمغادرة إذ ليس لديهم أي حل آخر. لهذا جاء الفيلم برسالة الحقيقة، وهي تثبيت هوية الانتماء إلى تاريخنا وأرضنا ولغتنا، ومن خلاله أردت أن أقول إننا أبناء سورية الحقيقيون، ونحن نمتلك تاريخاً يعود لآلاف السنين، ومعلولا هي جزء من هذا التاريخ الذي تطور حيث كانت تستخدم اللغة الآرامية ثم انتقلت إلى اللغة العربية، وجذورنا مرتبطة هنا ونحن ننتمي لهذه الأرض، وسورية كانت تدين بالمسيحية قبل مجيء الإسلام، لذا كان لابد من أن نعرف ما جذورنا، ومن نحن كسوريين». وفي النهاية حدثنا المخرج كيف تناول الكثير من القصص الحقيقية والمشاهد الحيّة التي تعزز من أهداف الفيلم ورسالته، سواء عبر الأشخاص الضيوف الذين يحكون ما قاسوه من الحصار المسلّح عليهم، أم عبر عرضه للأحداث والأماكن خاتماً «طبعاً أنا أتناول الانتماء لسورية كانتماء حضاري قبل أي انتماء ديني، منطلقا من الحضارة السورية القديمة الموجودة في معلولا وفي مغاورها التي عمرها نحو سبعة آلاف سنة، إلى الآثار والأديرة الموجودة هناك، مسلطا الضوء هنا على المغاور التي كانوا يختبئون فيها منذ القديم، وهي اليوم موجودة وتسمى الحصن. كما أن المشاهد التي تُعرض في الفيلم هي مشاهد حيّة لأشخاص عانوا أثناء وجود الإرهابيين منهم السيدة (انطوانيت) التي تعرضت للإصابة وللكثير من المعاناة بفقدها لأسرتها على يد هؤلاء المسلحين. وأيضاً نعرض في الفيلم مشاهد-لم تعرض من قبل-أثناء دخول المسلحين إلى حارات معلولا. وهناك مشاهد لإحدى السيدات التي دخل المسلحون إلى بيتها، في الوقت الذي كان أبناؤها يدافعون عن بلدتهم. إذاً لولا مقاومة الأبناء لما عادت معلولا، وبالنهاية إيمان أبنائها بأرضهم وجذورهم هو الذي حمى بلدتهم».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن