قضايا وآراء

أدعياء رعاية حقوق الإنسان

| د. يوسف جاد الحق

لماذا اختص الغرب «الحضاري الديمقراطي»، الفلسطيني خاصة والعرب عامة، بهذا العداء السافر ضارباً عرض الحائط بما تعارف عليه البشر من شرائع وقوانين وقيم حيث لا يخجل من تواطئه على شعب صغير أعزل كان الغرب نفسه سبب مأساته المروعة المفجعة منذ البداية، من دون أن يكون هذا الشعب طرفاً فيما وقع لليهود.
ما يجري اليوم على أرض فلسطين هو الصورة الحقيقية لهذا العداء القديم الجديد، المتمثل في دعمه المطلق لإسرائيل، طليعته في هذه الحرب الهادفة إلى إبادة الشعب الفلسطيني عن طريق الحصار والتجويع، بعد عقود من صموده أمام القتل والترويع، وتدمير جميع وسائل عيشه ومصادر حياته بأسلحة فتاكة يمنحها الغرب لإسرائيل مجاناً وبسخاء عجيب، وقل مثل ذلك ما صنعوا في العراق، ومثله في أفغانستان، ومثله في لبنان، ومثله في سورية، العمود الفقري لحلف المقاومة.
وحين صمد الفلسطينيون زهاء قرن كامل أمام هذا كله، ومنعوهم من تحقيق أهدافهم اللاإنسانية الاستغلالية، تفتقت عبقريات أساطين عصاباتهم الإجرامية الإرهابية عن فكرة الحصار التام المحكم، في عملية عزل عن العالم، غير مسبوقة في التاريخ، بجدار يحيط بشعب كامل من كل جانب، ليحوِّل أماكن وجوده فيما تبقى من أرضه إلى سجن كبير، يمكّنهم من التحكم المطلق في وسائل بقائهم على قيد الحياة، فيمنعون عنه المال والغذاء والدواء، حتى المعونات التي يقدمها أخوة لهم من عرب ومسلمين، لكي يموتوا جوعاً ومرضاً على مرأى من سائر شعوب العالم، أو قيادات تلك الشعوب، بعضها متآمر بالصمت، وبعضها بالمشاركة والمساندة، ثم هم بعد ذلك «إرهابيون» إذ يقاومون محتلي أرضهم، لكي يدفعوا الموت عن أنفسهم، بل هم في نظر أرباب النفاق والشقاق، مدانون بدعوى ممارسة «العنف» لمجرد أن يرفعوا الصوت احتجاجاً، أو حتى استنجاداً إزاء أعتى مجرمي العصر وممارسي أبشع أنواع العنصرية الحاقدة، وما هو أسوأ من «هولوكوستهم»، ومن ورائهم قادة منهم يقبعون في أعلى مراكز الإدارة في بلاد «العم سام»، بدءاً من «البنتاغون» والخارجية والبيت الأبيض إلى البنك الدولي المتحكم في السياسات المالية والدولية. وكان يرأس هذا البنك إلى وقت قريب، بتدبير من الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، أحد كبار المخططين للتآمر على العرب والمسلمين، للعدوان على العراق وأفغانستان وفلسطين وهو «بول وولفتز».
هذه المؤسسة العالمية استطاع وولفتز أن يخرجها عن دورها الذي أقيمت من أجله، فيسخرها للمشاركة في حصار الشعب الفلسطيني، متواطئاً مع الجوقة إياها إلى حد إنذار البنوك والمؤسسات المالية على مستوى العالم، بالامتناع عن إيصال المال لأطفال فلسطين ونسائها ورجالها، تحت طائلة عقوبات صارمة تقرها عند الضرورة، تلك الهيئة المسماة «الأمم المتحدة» بعد أن أمست ألعوبة في أيديهم، وأداة طيعة تستجيب لطلباتهم كائنة ما تكون، فما أسهل أن يملوا عليها قرارات ظالمة متحيزة، بل إجرامية تحت طائلة البند السابع مثلاً في مجلس الأمن، تتيح لهم متى شاؤوا، إيقاع العقوبات على من تدفعهم كرامتهم أو إنسانيتهم إلى الخروج على بيت الطاعة الأميركي الإسرائيلي البريطاني وعدد من الضالعين الآخرين المعروفين.
لقد أحكم الحصار الآن على الشعب الفلسطيني، تمهيداً لعملية إبادة جماعية حقيقية هذه المرة، لكي تخلو لهم الأرض الفلسطينية تماماً ممن بقي من أصحابها، ومع تنفيذ مشروعي «صفقة القرن» و«الدولة اليهودية»، فإن الفلسطينيين يوضعون اليوم أمام خيارين:
1ـ الموت جوعاً وعطشاً ومرضاً تحت حصار محكم.
2ـ الرحيل عن الأرض هرباً من عمليات إبادة جماعية، ويستمر إبان ذلك مسلسل القتل والتدمير تطبيقاً لنظريتي «الفوضى الخلاقة» و«التدمير البناء» دفعاً بهم إلى الرحيل، وعلى الذين يجادلون في هذا من منكري «نظرية المؤامرة»، أن يتذكروا حصارهم للعراق طوال العقد الأخير من القرن الماضي.
لقد مات في العراق ما ينوف على المليون ونصف المليون من العراقيين، مع أن حصار العراق كان اختراقه ممكناً، فهو لم يكن محاطاً بجدار عازل شيد من حديد دونه جدار برلين الذي أقام الغرب الدنيا ولم يقعدها يومئذ على دولة الاتحاد السوفييتي، بوصفه انتهاكاً لحقوق الإنسان في «الحرية والديمقراطية»، ولكنه الإنسان الغربي أيها السادة، أما هنا فهو فلسطيني عربي، والخصم هناك عدو الغرب في الحرب الباردة، وممارسة الجريمة والإرهاب الحقيقي هنا «إسرائيلهم» رأس الحربة في الغزوة الغربية الجديدة على هذه المنطقة وأهلها، ذلك هو النفاق الغربي المعهود منذ القديم بدافع من كوامن عداوته لهذه الأمة.
هي إذاً عملية تصفية نهائية للقضية الفلسطينية، هذا على الأقل ما يسعون إليه، ويعملون عليه، بعد أن ضاقوا ذرعاً بمقاومة الفلسطينيين على مدى السنين من دون أن يُهزموا أو تلين لهم قناة. صنعوا كل ما في وسعهم من دون جدوى، ولو أمكنهم منع الهواء عنهم أيضاً لمنعوه لو وجدوا إلى ذلك سبيلاً، ومن يدري فقد يخطر هذا للسيد جون بولتون الإسرائيلي، وهو مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي، ممثل دولة القطب الأوحد في هيئة الأمم المتحدة سابقاً.
هذا الرجل كان وراء سائر القرارات الصادرة ضد العرب لمصلحة إسرائيل وبدفع منها، بما في ذلك القرارات 1559، 1644، 1680 وغيرها، وقرار محاسبة سورية، وقرار إلغاء اعتبار أن الصهيونية شكلٌ من أشكال العنصرية، رقم 3379، وهو العامل بدأب على إثارة العالم ضد إيران في مسألة تخصيب اليورانيوم، وهي التي لا تملك قنبلة نووية واحدة، وتعلن أنها لا تنوي امتلاكها، متجاهلاً كذلك وبصفاقة عجيبة ترسانة الكيان الصهيوني التي يملكها الآن وقنابله النووية الأربعمئة، المسلطة فوق رؤوس سائر العرب والمسلمين في هذه اللحظة التي نعيشها، بل إن خطرها يهدد العالم بأسره في السلم وفي الحرب على حد سواء.
على الرغم من هذا كله فإننا على يقين بأن هزيمة العدو ومَن وراءه، قادمة محققة، وكما فشلت في الماضي سائر غزواتهم، فسوف تفشل هذه المرة أيضاً سائر مخططاتهم العدوانية، والعدو نفسه في مأزق له ما بعده في فلسطين وإن بدا لبعضهم غير ذلك، كذلك حاضنته، من الولايات المتحدة وبريطانيا ومن معهما، في مأزق رهيب في كل من العراق وأفغانستان، ومصير إسرائيل في المنطقة ككيان معتد ومغتصب هو المهدد وليس الوجود الفلسطيني والعربي الراسخ، فإن أعماق هذه الديار المقدسة راسخة منذ الأزل.
مخطئ من لا يعتقد بأن الكيان الصهيوني قابل للهزيمة، ما حققته المقاومة في لبنان حتى الآن، وما تحققه المقاومة في العراق وفلسطين على مدار الساعة، خير شاهد على ذلك، والنصر دائماً من نصيب الشعوب، فهي الأبقى وهي الأقدر على هزيمة المعتدين والغزاة منذ قديم الزمان وحتى يومنا هذا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن