قضايا وآراء

سورية والمساحة المتاحة

| مازن بلال

يطرح التشكيك الروسي بشأن الانسحاب الأميركي من سورية مسألة أساسية تتعلق بالسيناريوهات المرتقبة، فرغم البدء بسحب بعض الآليات أو الحديث عن إعادة الانتشار إلا أن المشكلة الأساسية مازالت قائمة، حيث أوجدت واشنطن مساحة اشتباك واسعة ومعقدة، وفي الوقت ذاته لم تطرح أي تصور سياسي واضح لدورها في سورية بعد الانسحاب، على حين يظهر هذا الإجراء العسكري وكأنه نتيجة لصراعات بين دوائر اتخاذ القرار الأميركية.
عمليا فإن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب أربك كل الأدوار الإقليمية في الأزمة السورية، وأعاد ترتيب الأولويات وعلى الأخص بالنسبة لتركيا، حيث وجدت نفسها أمام استحقاق مواجهة سياسية على الأقل مع حلفاء واشنطن وعلى الأخص السعودية، فأنقرة التي بقيت طوال العقدين الماضيين تبني مساحة إسلامية إن صح التعبير؛ تصطدم اليوم بمنظومة إسلامية مختلفة تعبر عنها دول الخليج، وهذا الأمر يجعل شرقي الفرات جغرافيا لتصفية الحسابات، على الطريقة نفسها التي كان فيها العراق مجال صراع بين الخليج وإيران.
بالنسبة لدمشق فإن الأمر يظهر ضمن تصور مختلف، فهي استقبلت دعوة الأكراد للحوار ودخلت ضمن تفاوضات جزئية بوساطة روسية كما حدث في منبج، لكن هذه المسألة تطرح أمرين أساسيين:
– الأول مرتبط بالعامل الكردي حصرا الذي صعد وسط انتشار داعش، فهو كعامل مرجح كان مرهونا بصعود داعش وتمددها بين سورية والعراق، والدعم الأميركي للقوات الكردية جاء من هذا الأمر حصرا، وحاول إيجاد شكل ينافس شرعية الدولة السورية.
عندما ظهرت «قوات سورية الديمقراطية» كانت واشنطن تسعى لفتح هامش للعرب أساسا كي يتحركوا خارج نطاق «داعش»، وفي الوقت نفسه لطمأنة أنقرة من أن «الأكراد» لن يشكلوا خطراً ما دام هناك توازن عربي كردي ضمن «قسد»، لكن هذه الحسابات على المستوى العسكري بدت مختلفة، فـ«قسد» ظهرت كجهاز سياسي عسكري تقوده قوات الحماية الكردية لشرعنة تحول على مستوى الجغرافيا السياسية لسورية، والإدارة الذاتية التي بدأ تطبيقها جزئيا أثارت حفيظة تركيا، وتحولت «قسد» عملياً إلى قوة أمر واقع لتأسيس «إقليم كردي» رغم جميع التصريحات التي تتحدث عن وحدة الأراضي السورية.
– الثاني أن «قسد» رغم ما توحيه من شكل منظم عسكريا على الأقل، لكنها ساحة لتأثيرات مختلفة وخصوصاً مع إعلان واشنطن قبل فترة ليست بالقصيرة عن نيتها الانسحاب من سورية.
يبدو التوازن الذي رسمته «قسد» ضمن شرقي الفرات مستنداً إلى أدوار عربية غير واضحة، فهو يتعامل مع عشائر عربية تملك امتدادات ومرجعيات منتشرة حتى الجزيرة العربية، وهو ما يفتح الباب للتصاعد في التناقض وعلى الأخص مع التهديدات التركية بعمليات عسكرية وبفرض حزام أمني.
مسألة الحوار مع السوريين الأكراد حساسة لأبعد الحدود، فهي تنطلق من «شرط» انتهى عملياً مع بدء انسحاب القوات الأميركية، وفي الوقت نفسه هناك قاعدة عسكرية واسعة لا يعتمد تفكيكها على الحوار فقط، بل أيضاً على توازنات إقليمية أبرزها الصراع بين أنقرة ودول الخليج على الملف السوري، فالعشائر العربية التي يغيب اسمها من العناوين الخاصة بشرق الفرات؛ ستصبح عاجلاً أو آجلاً جزءاً محورياً من الصراع الدائر في الجزيرة السورية.
في شرقي الفرات الأزمة ليست بـ«الأكراد» الذين يشكلون بنية عسكرية سياسية، بل في الطبيعة السكانية المتنوعة التي خضعت خلال الأزمة لاختبارات خطرة وعلى الأخص بسبب «داعش»، وهي اليوم مسرحا سياسيا أيضاً ضمن مثلث جغرافي خطر، وضرورة الحوار مع السوريين الأكراد هي نافذة واحدة فقط، على حين الجزيرة السورية أوسع من عامل سياسي عسكري واحد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن