ثقافة وفن

الفكر للحوار والرسالة للانصياع «1» … لماذا تنكّر العرب لكلّ مفكّر أعمل العقل وتركوه للغرب؟ … العقل يصنع أمة وحضارة والنقل يصنع ما نحن فيه من تناحر وضياع وتخلف

| إسماعيل مروة

في المفاصل التاريخية يجري أهم المراجعات الفكرية، فبعد الحروب الطاحنة تبدأ حركة انتعاش الفكر التي استفادت من الحرب، وربما كانت الحرب أساساً من الطرق للوصول إلى الغايات الفكرية، فقد لا يحدث انقلاب فكري في المفاهيم والمعايير إلا إذا اكتوى المجتمع بنار حرب قوية تجعل التغيرات الفكرية واردة، بل مطلوبة جداً من أجل نجاة المجتمع، والوصول إلى صورة مغايرة.

من عصر إلى عصر
وقد شهد العالم انقلابات فكرية من عصر إلى عصر عن طريق الحروب، فمن العصور القديمة إلى العصور الوسطى، ومنها إلى عصر النهضة والتنوير، وفي كل مفصل من مفاصل الحياة والحروب تنتعش الذاكرة، وينهض العلم والبحث من تحت الرماد وقد أصبح ملاذاً حقيقياً، فيتم الانقلاب الجذري الفكري والسياسي والاجتماعي، وتكون القطيعة التامة مع ما قبل، خاصة أنه كان الطريق الممهد إلى الحرب والاقتتال.
وكذلك فإن العالم والبلدان يصبحان في مرحلة إعادة الهيكلة والتقسيم، وقد شهد عصرنا الحديث حربين مدمرتين بنتا العصر الحديث، الحرب العالمية الأولى والثانية، ومع انتهاء الثانية بدأ عصر جديد، الحرب منطلقه والحضارة غايته، وكانت النهضة العلمية، التي لا تزال مستمرة في أطوارها التي لن تتوقف.. وفي كلتا الحربين كان العرب محط اهتمام، فهم أرض المعركة وهم وقود المعركة، ومع أن العرب يملكون في تلك المرحلة كما في كل مرحلة مفكرين كباراً يملكون الرؤى، والمشروع والطموح، إلا أنهم استطاعوا اغتيال الأفكار وطمس المشروعات، وتغييب العقول كما يرى بعضهم بمؤامرة خارجية، أو بمؤامرة وتآمر داخلي، لكن العرب تخلصوا من الكواكبي الذي قدم رؤى أهم من مكيافيللي وتخلصوا من محمد عبده وكفروه وتخلصوا من مشايخ الأزهر المتنورين لمصلحة مشروع كان قد بدأ يظهر، سواء من الدوائر الخارجية أم من الدوائر الداخلية!، تمت تصفية كل المشروعات، وسدت كل كوى النور، وأجهضت كل النساء التي تحمل مشروع مفكر لمصلحته!

إعادة الكتابة
عاش العرب قبل الإسلام حياة فيها من الرقي ما فيها، وفيها من النظم والقيم ما فيها، وجاء الإسلام في العرب لأنهم وصلوا مرحلة من التحضر والقدرة على تقبل الإسلام واستيعابه وليس كما يدعي كثيرون أن العرب كانوا لا شيء.. ومصداق ذلك قوله صلى الله عليه وسلم «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» فهي موجودة وأصيلة ومحفورة، والرسالة كانت لإتمامها، وهذا المفصل التاريخي في الدعوة الإسلامية كان كفيلاً بانتقال العرب من حال إلى حال ولكن الذي حدث أن الدعوة كدعوة دينية أخلاقية انتهت بانتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وبالتفات الناس إلى السلطة والحكم، وتحولت اللحظة الحضارية المدهشة، واللحظة الدعوية التي جاءت لإتمام حضارة العرب، من شيء يمكن أن يغير بنية المجتمع إلى خلافات أدت إلى تفتيت المجتمع بطريقة سلبية، بحيث لا يمكن أن يعاد البناء مرة أخرى، إلا في حالة وحيدة، هي البتر التام للسلسلة التاريخية المشكلة، مع الحفاظ على الرسالة ومبادئها وأخلاقياتها وأن نحرق الزمن من لحظة الخلاف الأولى إلى يومنا الذي نعيشه، ما من أحقية لأحد في وراثة أحد إن كان صاحباً أو صحابياً أو قريباً أو مقرباً أو كاتباً أو راوياً، وإلى اليوم يجلس المتحدثون والعلماء للتفصيل في حق هذا الجليل أو ذاك، وبغض النظر عن أي شيء فإن الحق الوحيد هو في حمل الرسالة وتبليغها، أما ما يرونه من الحق، فهو الحديث عن المكاسب لا عن الحقوق، فهذا يريد أن يكسب، وذلك يريد أن يكسب، وكل واحد يؤيد رأيه بالإله وبتفويض متخيل، وبحديث مختلق، وبقراءة مزاجية مصلحية خاصة.
وبدل أن تتحول الدعوة الإسلامية إلى مرحلة عليا من التحضر، تحولت إلى رحلة من التناحر والاقتتال، والعودة إلى عصبيات قبلية أين منها عصبية الجاهلية، وأزعم أن العصبية الجاهلية كانت أكثر تماسكاً وموضوعية من عصبيات جاءت مستندة إلى الدين والشرع والنص لتبيح لنفسها قنص المكاسب وليس الوصول إلى حقوق.

حضارة الدم
كانت خطبة الوداع أمراً مفصلياً مهماً، ولكن جلّ ما فعلناه هو أننا نقرؤها حديثاً ونشرحها من دون أن ندرك مفصليتها، في هذه الخطبة العظيمة كان الرسول قارئاً وعارفاً ورسولاً ومدركاً لما سيحدث بعد رحيله، ولأنه رسول ويملك المعرفة أدرك ما سيحدث بعد رحيله فعمل على رفض صلات القربى، ورفض العصبية ورفض الظلم، ورفض كل ما يمتّ إلى المجتمعات العربية وتركيبتها بصلة، وترك المسلمين والعرب على المحجة البيضاء، ولو قرأنا خطبة الوداع بحق لعرفنا أنه ما من أحد له الحق في الوراثة، والرسالة لم تكن دولة أو منصباً، وللدولة رجالها الذين قد لا تربطهم بالرسول رابطة أو معرفة، تجاهلنا ما جاء في الخطبة وأردنا من كل الرسالة وراثة المجد والسلطة لقرابة أو قبلية أو عشائرية أو نسب، وبنيت الدولة العربية الأولى بعد الإسلام على الدم! وليست الدولة الإسلامية فما من دولة إسلامية، فالرسالة قانون إلهي لا يمكن أن يكون قانوناً للحكم والدولة، وغاية ما يمكن أن يكونه هو أن يكون مرشداً ومنهلاً للأفكار والقوانين والآراء.
فقتل عمر وقتل عثمان وقتل علي رضوان الله عليهم من أجل السلطة لا من أجل الرسالة، ومن أجل الاستحواذ على الحكم! وأي كلام آخر هو محض افترا، فالحكم هو السبب الأساسي لقتل هؤلاء الأجلاء الذين وهبوا ذواتهم للدعوة الإسلامية خلال وجود الرسول صلى الله عليه وسلم، وقتلتهم السلطة بعد رحيله.. ومهما كانت الأسباب والدوافع، ومهما دافع هذا أو ذاك عن شخصية اعتبارية مكرمة، فإن القتل حصل، ولم يكن من أجل نص أو آية، وإنما كان من أجل الحكم والأحقية المزعومة فيه، وقد وقف سماحة المفتي العام الدكتور أحمد بدر الدين حسون عند هذه القضية بذكاء لم يسبق حين برهن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصنع دولة إنما جاء برسالة والرسالة مفتوحة لكل إنسان، أما الوهم السلطوي الذي حدث بعد انتقال الرسول فزعم بوجود دولة، وللدولة حاكم، وشتان ما بين رسالة ودولة، ولو وقفنا عند ما جرى هذه الوقفة، ولو استمعنا إلى الحق لا العواطف والرغائب فإننا سنصل إلى حقيقة ما جرى، فالرسالة مشاع، وكل امرئ في الكون يتابع الرسالة ولكن الحكم شيء آخر، وعلينا ألا نلبس الصراع على الحكم لباساً مقدساً، لأن الطامة تصبح فتنة، وتتحول إلى كبرى، ومن ثم تنتقل من جيل إلى آخر، وهذا ما نحياه اليوم من صراع على الحكم تحول إلى صراع عقيدي ومن دم إلى دم، ومن صحبة والتصاق وقرابة إلى قبلية كانت دولة الأمويين التي يقال فيها ما يقال لكنها كانت دولة سياسية مدنية ابتداء من نقل مقر العاصمة وصولاً إلى القوانين والأنظمة في سياسة الدولة، وبدل الاستفادة من تجربة الحكم، والانتقال إلى دولة محكمة بشكل أفضل، انتفض العباسيون باسم القرابة والحق، فشردوا أبناء قبيلتهم، وقتلوهم ومثلوا بهم، ولم يتخلصوا من فعل فعله الأمويون من قبل، ليؤسسوا دولة قامت على الدم والاستباحة والاستعانة بالغرباء على أبناء الدولة حرصاً على السلطة، ولننظر إلى الدولة التي يسبغ عليها اسم (الإسلامية) وكم تتفق مع خطبة الوداع، فلا قتل ولا نهب ولا استباحة ولا تمييز أراد الرسول في خطبة الوداع، وكان سَمل العينين للآباء من أجل الحكم، وكان قتل القريب للحكم، وكان كم الأفواه من أجل الحكم، وتحولت الرسالة الإسلامية السامية أساساً إلى خادم للدولة العصبية والقبلية، وصارت مشيخة الإسلام لتجويز القتل، ولكن باسم العقيدة والدين، ولم تنته الدولة العباسية إلا وقد أسلمت الأمة وعقيدتها ومقدراتها إلى الأغراب الذين عاثوا فساداً ولكنهم كانوا من الذكاء بمكان فأعلنوا إسلامهم، وتحولوا إلى خلفاء يحكمون الدولة باسم العقيدة والدين، جاؤوا من كل صقع، ومن كل مكان ليحملوا الصبغة الدينية (الرسالة) وليحكموا العرب مئات السنين، وما نزال إلى اليوم نتغنى بهم ونذكرهم ونتذكرهم، ونحن إلى أيامهم لا لشيء، إلا لإسلامهم! والإسلام في الأصل لم يصنع دولة، ولم يسمح بوجود حاكم مهما كان هذا الحاكم، لأن الحكم يتنافى مع الرسالة، وهو إنساني مصلحي على النقيض من الرسالة التي تكتسب الصفة الفردية الخاصة.

لا مكان للعقل
تميزت حياة العرب قبل الإسلام بعدم الاستقرار، ولعلّ يثرب هي أول حاضرة عربية في الحجاز حولت حياة التنقل إلى حياة مدينية، وإن كانت الحياة الثقافية الفكرية قد غصت بالخطباء والشعراء فإن الحياة العربية والمصنفات لم تحفظ لنا أسماء مفكرين وحكماء كما عند اليونان والرومان، ولم تحفظ لنا ملاحم ذات وقع ملحمي، ولا تعدّ السيرة الشعبية ملاحم أدبية، خلا حكمة هنا أو هناك تستل من خطبة لأحدهم أو بيت شعر لشاعر، وعندما جاء الإسلام انشغل العلماء وحتى الشعراء بالقرآن ونصه، وحين تم التأسيس للدولة وصارت الرسالة في خدمة السلطة، عملت السلطة على إلغاء الاجتهاد، وعلى إيقاف العقل، ونشأت صراعات كثيرة، وصولاً إلى المعتزلة وخلق القرآن، لكن أي شيء يتعلق بالاجتهاد والعقل تم إلغاؤه لمصلحة السلطة السياسية، فكثر الفقهاء، وعمت ثقافة النقل، ولم تستطع الحضارة العربية على سعتها أن توجد مفكراً واحداً يملك الحرية والتأثير، والفكر العربي يخلو من وجود أي مفكر معترف به وبتأثيره عبر عصوره، لأن الفكر يحتاج إلى حرية، ولا حرية من السلطة التي جعلت الدين حجتها، ولم تسمح بأي اجتهاد أو جهد فكري. وصار الفكر العربي يسبح في بركة النقل، فهذا ينقل عن ذاك والآخر عن سابقه، حتى تحولت الآراء الشخصية إلى جزء مهم من العقيدة..! واليوم لو أراد أحدهم أن يدافع ويذكر أسماء مفكرين قد يفعل، ولكنه ما من مفكر، فابن حنبل والشافعي ومالك وسواهم فقهاء مجتهدون وليسوا مفكرين، لأن جملة اجتهاداتهم وآرائهم تمر عبر النص الديني، وليس عبر الفكر، والباحث اللغوي ليس مفكراً، وهكذا تصل إلى أن الحضارة العربية غصّت بالنقل في مختلف علومها، وحتى في الترجمة، ولم تستطع أن توجد شخصية خاصة بها عبر مسيرتها الزمنية الطويلة، فهل هذا أمر طبيعي؟ إن خلوّ الساحة الفكرية العربية من أي مفكر في التاريخ الطويل خلا من قدّم فكراً فأهملناه ورجمناه وتركناه لغيرنا كابن رشد وابن عربي ترك المجال واسعاً للفقهاء في أن يتحولوا إلى مفكرين ورجال دولة، على حين أن الفقه في معناه هو تعليم، وتحوّل الفقيه من رجل يعلم الناس أمور دينهم إلى حاكم بأمر الله مستعيناً بما قال السابقون، نافياً العقل الذي جاء به والذي يخوّله أن يفكر وأن يجد سبل عيشه الخاصة به.

عدم الاعتراف
ثمة فروق كبيرة بين السلطة التنفيذية والسلطة الروحية، لذلك وجد عند العرب منصب القضاء، ومنصب مشيخة الإسلام، والمشيخة شيء مختلف غير تنفيذي لكنه أعلى من الذي يتولى شؤون التنفيذ في السلطة السياسية، ولا يجوز دمج الأمرين، ولا طغيان أحدهما على الآخر، فالذي يمضي أمور الناس يرتبط بهيكل السلطة السياسية، ومرهون بها، أما المشيخة الروحية، فهي مرجعية علمية روحية فردية، علاقتها بالناس والهداية أعم وأشمل ولكننا باختراعنا ألغينا الفكر والعقل، واختصرنا ذلك بأشخاصنا وبمنافعنا، فحاربنا الشريعة وحاربنا بها، وخرج علينا في مختلف المراحل الزمنية أشخاص كثيرون كانت مصالحهم أهم من النص ومصالح الناس، وهذا ما يسوّغ التماع أسماء محددة عبر الزمن من الشافعي إلى محمد عبده وعبد الرازق وشلتوت والشعراوي، لأنهم من القلة التي أرادت للعقل أن يكون إنسانياً يدير شؤون الحياة، ومن دون أي تحيز فإن سماحة المفتي العام الأستاذ الدكتور أحمد بدر الدين حسون يمثل ذروة السنام في سلسلة طويلة من العلماء المتنورين الذين عرفوا موطن الداء، واكتشفوا العلاج والدواء… ولو أن هذه البوارق في تاريخنا نالت حقها من العناية فإننا يمكن أن نصل إلى فكر، وإلى فصل تام للدين عن الدولة، ولكن ما حدث كان خطيراً، ففي عصر النهضة برزت أسماء وشخصيات تحاول أن تفصل وتؤسس لكنها رجمت، ووصفت بالعمالة والماسونية أو لم تأخذ حقها ومكانتها.

وللحديث صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن