ثقافة وفن

«ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ في سورية وتحديات ﺍﻟﻌﺼﺮ ﺍﻟﺮﻗﻤﻲ» … زريق: التأثير الشبكي لا يمكن مقاومته والمطلوب التفاعل معه بأدوات وذهنيات غير تقليدية

| الوطن

إنَّ التطور التكنولوجيّ الرقمي وتأثيره الشبكي في مجتمعاتنا واقعٌ حتميٌّ لا يمكن مقاومته أو الهروب منه؛ بل المطلوب التفاعل معه بأدوات وذهنيات غير تقليدية «شبكية» إذا صح التعبير.
هذا ما خلصت إليه دراسة المدير العام لمركز دشق للأبحاث والدراسات «مداد» هامس عدنان زريق بعنوان «ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ في سورية ﻭﺗﺤﺪﻳﺎﺕ ﺍﻟﻌﺼﺮ ﺍﻟﺮﻗﻤﻲ»، مبيناً أن الأخذ بالحسبان فواعل (عقد) وعلاقات العالم الشبكي الجديد، إذ لم تعد الدولة الوطنية تملك حصرية التأثير، فقد باتت عقدةً من عقد كثيرة تتقاسم فعل التأثير، وما يحدد حجم تأثيرها مقدار دفق البيانات الصادر عنها والوارد إليها، وهذا يتطلب منها التركيز على صنع المعلومة والمعرفة بحسبانهما السلعة الأهم في العالم الشبكيّ، واعتماد البث السريع وبشكل مكثف للأخبار والمعطيات العامة للجمهور.

ومن توصيات الدراسة أيضاً؛ مراجعة ممارسات التواصل الحكومية التي تسمح للجمهور بإبداء رأيه حول السياسات العامة والشؤون المجتمعية، والاهتمام بالجانب البحثي للتأثيرات المتبادلة بين وسائل الاتصال الرقمية والمجتمع السوري بعامّة، وحجم التأثير الثقافي بخاصّة، والاستفادة من نتائج هذه الأبحاث في وضع سياسات اجتماعية وثقافية، إضافة إلى الدمج الفعال بين الأدوات الثقافية التقليدية والأدوات الرقمية، وذلك يتطلب من وزارة الثقافة إستراتيجية واضحة وبرنامجاً تنفيذيّاً يدفع بها قُدُماً في ساحة التأثير والفعل الثقافي.
وحسب دراسة زريق، التي نشرت أمس، بعد أن تم عرضها في مؤتمر الثقافة السوري مؤخراً، فإن تبني مشروع إنشاء «الأرشيف الوطني الرقمي السوري»، الذي يهدف إلى تجميع الأرشيف الوطني الرقمي السوري في جميع المجالات: السياسية– الدبلوماسية– الاقتصادية– الاجتماعية– التعليمية والتربوية– الثقافية والفكرية– العقارية– الجغرافية– الصناعية– الزراعية– المواقع الأثرية والآثار– الأحداث التاريخية والتطوّر الحضاري– السجل المدني الحالي والتاريخي؛ مع رقمنته وفق المعايير العالمية بلغات مختلفة باستخدام آخر الإنجازات في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات؛ وفهرسته وتصنيفه وربطه واسترجاعه والبحث عنه وتقطيره؛ وإتاحته للعموم وللمتخصّصين؛ وإدخاله في جميع مناحي الحياة ولاسيما التعليمية والتربوية والأعمال الحكومية.

المجتمع الشبكي السوري
وعرضت الدراسة تحت عنوان «المجتمع الشبكي السوريّ» أن محاولة التصدّي لتوصيف تأثير وسائل الاتصال الرقميّ في المجتمع السوري ومدى استجابته للنموذج الشبكي محفوفةً تبدو بالمخاطر لسببين رئيسين، الأول؛ بدأت استجابة المجتمع السوريّ لتأثير الأدوات الرقمية متزامنة مع الحرب التي زعزعت عوامل استقراره وأثرت في منظومته القيميّة، ما أدى إلى تداخل كبير بين التأثيرين تصعب معالجته.
أما الثاني؛ فيتمثل بندرة الأبحاث الميدانية التي تُظهر كميّاً استخدام السوريين للتقانات الرقمية ومدى انتشارها وتفاعلهم معها وتأثيرها الثقافي في القيم المجتمعية.
وفي هذا الخصوص قدم زريق في دراسته مجموعة من الملاحظات، تمثل أبرزها بأن وسائل الاتصال الرقمية استخدمت ساحة للحرب وأداة لها في الوقت نفسه، حيث شهدنا استخداماً مكثفاً لمواقع التواصل الاجتماعيّ واليوتيوب وأجهزة الاتصال اللاسلكية (الثريا)، وظهرت «جماعاتٌ افتراضيّةٌ» عديدة كانت ناشطةً على الفيسبوك والجرائد الرقمية ومراكز التفكير والمواقع الإخبارية وغيرها، حتى بتنا أمام «حرب افتراضية» إذا صح التعبير، وقد اعتمدت الجماعات «المعارضة» و«الموالية» باختلاف مشاربها وتوجهاتها على هذه التقانة الرقمية لنشر مئات آلاف الفيديوهات والكتابات والصور والمقالات والمنشورات التي تدعم أفكارها، والجدير بالذكر أن عدداً لا بأس به من الجماعات المعارضة كان متموضعاً، فيزيائيّاً، خارج حدود سورية الجغرافية، لكنه سبّب تأثيراً كبيراً في الأحداث عن طريق الدفق الهائل للمعلومات، ويجوز لنا القول: إن التكنولوجيا الرقمية كانت عاملاً مؤثراً في هذه الحرب.
ومن الملاحظات أيضا؛ ظهور فواعل جديدة (عقد) من مجموعات افتراضية بدأت بحجز مكانها في الشبكة، وأصبح لها جمهورها، بصفتها فاعلاً في الحرب السورية، كما أصبحت لمنظمات داخل وخارج البلد قدرة متزايدة على التأثير في الجمهور السوريّ نتيجةً لاعتمادها على أدوات رقمية في تسويق أفكارها.
وحسب الدارسة، يمتلك المجتمعُ السوريّ إلى حدٍّ ما مقوّمات استخدام التقانة الرقميّة من الاتصال وإدارة توزيع المعلومات شبكيّاً، ولكن تنظيماته المختلفة لم تنخرط بشكل تام في الحياة الرقميّة، ويمكن ملاحظة ذلك على المستوى التجاريّ، إذ لم تُطبق تقنيات الدفع الإلكتروني وعمليات البيع والشراء، ويمكن القول: إن معظم النشاط الشبكي تركز في موقع التواصل الفيسبوك والمحادثة عبر الواتساب (WhatsApp) التي سمحت للسوريين بمزيد من التواصل الفعال في علاقاتهم خارج البلاد والتي زادت نسبتها بعد الحرب.
وذكر زريق في دراسته أنه يمكن تلمّس سمة «سطحية الثقافة الرقمية» بفعلِ انتشار ظاهرة «كتّاب الفيسبوك» و«شعراء الفيسبوك» و«خبراء الفيسبوك»، بالمقابل يمكن أيضاً عَدُّ هذه الظاهرة مصدراً لاكتشاف المواهب التي لم يستطع النظام الثقافيّ التقليدي الإضاءة عليها.

الصناعات الثقافية
بيّنت الدراسة أن الصناعة الثقافيّة السمعيّة والبصريّة والسينما والصحافة والنشر والموسيقى ترتبط ارتباطاً وثيقاً بصناعة التواصل الرقميّ، لذلك تراجع كثيراً دور من كان مهيمناً على الصناعات الثقافية التقليدية لمصلحة مالكي وسائل الإعلام والشبكات والفاعلين في الشبكات ومقدّمي الخدمات والمواقع كمحرك البحث غوغل والشبكات الاجتماعية كالفيسبوك.
لقد أسهم ازدهار الإنترنت ووسائل الاتصال الرقمية بوفرة العرض الثقافي، وأعطى أهمية كبيرة للنشاط الثقافي الفرديّ غير التجاريّ، وأصبح هناك استقلالية وحرية في إنتاج وقبول المنتجات الثقافية، ولكن بقيت تساؤلات عديدة عمّا تقوم به الشركات الست الكبار في هذا المضمار (أمازون وأبل وفيسبوك وغوغل وسامسونج ومايكروسوفت).
وحسب زريق، خلقت الشبكاتُ الاجتماعيّةُ على الإنترنت، «قطيعة غير مسبوقة» مع الطرق العلائقية السابقة، وفقاً لتعبير ريمي ريفيل، حيث أحدثت تغييراً ثقافيّاً كبيراً في التعبير عن الذات والمكنونات الداخلية عبر هوية رقمية افتراضية وعلاقات جديدة، إذ يمكن أن يتقاسم الإنسان ما يكنه داخله مع أشخاص مجهولي الهوية. هذه الثقافة التعبيرية تعطي أفضلية للتواصل على المضمون.

ثقافة الويكي (Wiki)
ابتكر مفهوم الويكي وارد كونينغهام عام 1995، وهو آلية للكتابة تتم بشكل تعاونيّ، وتسمح للمستخدمين بالولوج إلى المحتوى وتغييره وتصحيحه وتنقيحه (إنتاج تشاركي للمحتوى)، ومن أهم التطبيقات لهذا المفهوم موسوعة ويكبيديا التي تأسست عام 2001.
ونقلت الدراسة عن ريمي ريفيل أن هذا النظامَ التشاركيَّ يُظهر أننا نبتعد عن شكل «الثقافة المطبوعة»، ونعتمد «حكمة الجمهور» حيث يتم تقييم النصوص على المدى البعيد.
تشكل الويكيبيديا مثالاً مهمّاً يساعد على فهم استجابة المجتمعات الثقافية المختلفة للأدوات الرقمية، إذ استطاعت الويكيبيديا الإنكليزية، أن تصبح مرجعاً حقيقياً علمياً وبحثياً في حين مازالت الويكيبيديا العربية مثالاً سيئاً عن التشظي والتدخل الهاوي غير المضبوط.

هواة مقابل محترفين
بينت الدراسة أن المنظومة الثقافيّة التقليديّة تلتزم بمعايير تقييم الخبراء في الإنتاج الثقافيّ، حيث يفترض أن تخضع المواد الثقافية لهذا التقييم قبل نشرها كالصحف والجرائد ومؤسسات الإنتاج الموسيقي والسينمائي وغيرها، ويمكن لهذه القواعد أن تتخلخل أحياناً بفعل التمويل، إذ يمكن لأي كان طباعة الكتاب الذي يشاء دون عرضه على أي خبير طالما أن التمويل موجود، ويمكن أحياناً أن تساعد الجهات الرقابية الحكومية في ضبط عملية الإنتاج الثقافي ومراقبة محتواها، غير أن الفيضَ الكبير للمحتوى الرقميّ وسهولةَ انتشارِهِ غيّرا القواعد التقليدية لهذا الإنتاج، ما أدى لظهور إنتاجات ثقافية جديدة باستخدام الأدوات التي ذكرناها سابقاً سمتها الأساسية قدرة الهواة على المشاركة الفعالة بأقل التكاليف.
تجلت هذه المشاركة وفق باتريك فليشي، بالاعتراف بالفردانيّةِ المعاصرةِ، والتعلمِ الذاتيِّ الذي لا يتطلب شهاداتٍ، والفضول والشغف اللذين يقودان الشخص العادي لإبراز ما يعتقد أنه موهبة لديه، ووفقاً لتعبير فليشي «دمقرطة الكفاءات» فإن المجتمع يعتقد أن الكفاءة عند الجميع، وأن بإمكان الجميع تنفيذ عمل مشترك من خلال الأجهزة التعاونية.
أضف إلى ذلك، ما يمكن أن يسهم به الهواة في إبداء الآراء حول بعض الأعمال الموسيقية والفنية ومشاركتهم بالويكي، إذ يصبح الفنان في هذا العالم الجديد مدفوعاً بالحاجة إلى ربط علاقات متينة مع جمهوره، بوساطة المواقع الإلكترونية، ويُعَدُّ فيلم «سيد الخواتم» مثالاً على ذلك، حيث قامت الشركة المنتجة بالسماح لمتصفحي الإنترنت بإبداء الملاحظات والتعديلات على السيناريو قبل إنتاجه.

في الختام
اختتم زريق دراسته بالإشارة إلى أن وسائل التواصل الرقمي الجديدة تتطور على نحوٍ سريع للغاية، وتجتاح حياتنا المعتادة بعنف ملحوظ، ويبدو أن تقييمَ تأثيرها في العالم الثقافيّ صعبٌ، إذ إن تطور هذه التكنولوجيا أسرع بكثير من استجاباتنا لتوصيفها، ففي كل مرحلة زمنية قصيرة تظهر أداة رقمية جديدة، وتأثيرٌ جديد لم يكن قبلها، إنه بالفعل «عصر السرعة»، هذا، ومن الواضح أن شرخاً كبيراً قد حصل بين المبدعين والمستهلكين نتيجةً لثقافة تعاونية تشجع عمل الهواة، ولا تعطي قيمة للمِلْكيّة، وتسهل الوصول إلى المحتوى الثقافيّ، وتسمح بتفاعل مباشر كبير بين الخبراء والهواة. ولكنها تنمّط الأذواق وتشجع على التقليد الأعمى وتتسم بالسطحية.
وذكر أن التكنولوجيات الرقمية بعامّة، وفي الميدان الثقافي بخاصّة، ليست سوى انعكاس للاستعمال الذي يقوم به المرء، ولا يمكن أن تحلل بمعزل عن الفاعلين الذين يملكونها. ومن المؤكد أنها لم تضع حداً لعدم المساواة فيما يتعلق بالاستعمال، ولم تخف سوء التفاهم بين البشر، ولم تقلص بتاتاً النزاعات.
وأخيراً وليس آخراً، يمكن القول حسب زريق: إن التكنولوجيا الرقمية غيرت فهمنا للعالم، ولكنها للأسف شكلت أداةً للتحرر والسيطرة في الوقت نفسه، إذ إن فعل السيطرة متضمن في طريقة تصميمها. وبما أنها أصبحت أمراً واقعاً، فَحَرِيُّ بنا العمل على استثمار جوانبها الإيجابية وتحييد السلبية منها ما أمكن، بما يخدم ثقافتنا ومصالحنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن