قضايا وآراء

وقاسيون الإمام

| عبد المنعم علي عيسى

كثيرة هي المؤشرات الإقليمية والدولية التي تشي بأن الأزمة السورية قد بدأت تحط رحالها، أو أنها لم تعد تمثل حالة احتياج إقليمية أو دولية لاعتبارات عديدة، وهناك الكثير من العوامل أيضاً تجعل من وضع عربة حلها على السكة أمراً ملحاً في المرحلة المقبلة، وفي الذروة من الحالتين سابقتي الذكر تصدع القبضة الأميركية في المنطقة ولربما في مواقع عدة مما يمكن تلمسه في قرار الرئيس الأميركي الانسحاب من سورية في التاسع عشر من شهر كانون الأول المنصرم، وهو أكبر من أن يفهم على أنه انسحاب لظلال القوة فحسب ولا أهمية تذكر إذا ما تعثر تنفيذه أو تأخر لحسابات أميركية داخلية، إذ لطالما يجب التعاطي مع قرارات كهذه كـ«الفتاوى» التي ما إن خرجت أدت الغرض المطلوب منها حالها حال السهم الذي ما إن خرج من القوس استحالت عليه رحلته العكسية من الهدف إلى الجعبة.
مؤشرات التصدع الأميركية يمكن تلمسها، أكثر ما يمكن، في حالات التفلت البريطانية البادية للعيان التي تتمظهر في «البريكست» التي يمكن تفهمها على أنها نابعة من إدراك داخلي بريطاني يستشعر بين ثناياه مناخات ما قبل العام 1956 الذي شهد غياب شمس الإمبراطورية البريطانية، وكذا نظيرتها الفرنسية، في أعقاب فشل العدوان الثلاثي على مصر، وإذا ما صحت التسريبات التي تقول إن رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي كانت قد عرضت على الرئيس الصيني عشية لقائها الأخير به في بكين استعداد بلادها لاستبدال الدولار باليوان الصيني في تعاملات البلدين التجارية فإن ذلك يعني إعلان حرب تجارية على الولايات المتحدة، وما كان للدولة البريطانية العميقة أن تفكر في اتجاه كهذا لو لم يكن لديها إحساس داخلي بفائض قوة يقابله يقين لا يدركه الخطأ بعجز أميركي لا يمتلك وسائل الردع الكافية لإفشاله.
ربما من المفيد هنا أن نستذكر ونراجع أن لندن حتى بعد أفول عالميتها في السويس لم تغب عن ردهات غرف صناعة القرار السياسي الغربي وهي لم تغادرها على الإطلاق وإنما كانت تشغل فيها منصب المستشار الدائم والمفوض السامي حتى وإن كانت قراراته تحتاج إلى المرور في مكاتب التدقيق والتعديل وللمهر بأختام الدواوين الأميركية، بل من المفيد أيضاً تلمس البصمات البريطانية البارزة في العديد من مفاصل الأزمات العالمية حتى في أوج السطوة الأميركية، وربما كانت الأبرز منها في أزمات المنطقة التي كانت تعطي فيها العقاقير الكفيلة بضرب أي محاولة محتملة للنهوض، والأصابع البريطانية كانت محسوسة في الوصفات المعطاة التي طبقت في مناطق ارتكاز المنطقة برمتها، ففي مصر كانت الوصفة، مثلاً، وجوب استغلال الجغرافيا، أي الأرض، السانحة لدفع التاريخ، أي البشر، بعيداً عن حالة الالتصاق التي تحمي الطرفين فتؤمن للأولى مناعتها وتحمي الثاني من التيه والسقوط في الضياع، والمؤكد أن تلك الوصفة قد أعطت نتائج باهرة مؤخراً وإلا فكيف يمكن فهم التصريحات الصادرة عن رأس الهرم الأعلى في غرف صناعة القرار السياسي المصري التي مفادها أن القاهرة سوف لن تشارك في إعادة إعمار سورية لأن «السوريين هم من دمروا بلادهم»؟ وبغض النظر عن صوابية الأمر من عدمه فالتصريح يرصد جهلاً حقيقياً بألف باء تاريخ المنطقة الذي كتبه سعي شعوب بلاد الرافدين وبلاد الشام نحو شعب وادي النيل، والعكس صحيح، منذ أن وحد الأكاديون بلاد الهلال الخصيب في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد، وفي نهاية المطاف نحن مرتهنون ببعضنا البعض فإما أن ننهض معاً وإما أن نذهب جميعاً إلى قيعان لا قرار لها.
أما في العراق فقد كانت الوصفة تقول بوجوب إفقاد السلطة القدرة على الإمساك بمركزية القرار عبر التلاعب بعوامل الجغرافيا والتاريخ، وما جرى في الحالة الأولى يمكن تلمسه في التغييرات الجارية على الرافدين، دجلة والفرات، على حين يمكن تلمس ما جرى في الحالة الثانية عبر محاولات سلخ التجمعات البشرية عن تاريخها وتراثها بذريعة أن التكوين النفسي للشخصية العراقية وهي المعروفة بميلها للحزن وحب جلد الذات، وهذي إشكالية يمكن البحث بها، هو الذي يقف وراء كل الويلات والانهيارات التي عاشها العراق على مر المراحل الغابر منها والحديث.
في سورية الوصفة كانت شديدة الإيلام وهي تمثلت باختصار بوجوب ضرب عصب النسيج «السني» الظهير المحتمل لأي عملية نهوض مفترضة يمكن أن تشهدها البلاد.
هذا التراجع الأميركي المتزامن مع تمدد بريطاني بدت علائمه جلية عبر الدفع برأس الحربة الإماراتي نحو السيطرة على ممرات ومضائق إستراتيجية والعبور باتجاه مناطق حساسة في الداخل الإفريقي، لا يعني أن الولايات المتحدة سوف تسارع إلى رفع الرايات البيض أو إعلان استسلامها، شأنها في ذلك شأن أي قوة تستشعر انسداداً في آفاق عملها أو سبل تحقيق مصالحها، فهي ستسعى، وتلك هي طبائع القوة، وتحاول من جديد لكن بوسائل ومعدات أخرى، ومن المبكر القول إن ثمة تضارباً بات ظاهراً بين المصالح الأميركية والبريطانية في المنطقة، إلا أن ثمة مؤشرات دالة على جنين راح يتبلور في هذا الاتجاه وهو ما يمكن لحظه عبر الموقف الأميركي من القرار الروسي القاضي بنشر صواريخ «إس 300» في سورية الذي أعلنه وزير الخارجية الروسي يوم 28 أيلول الماضي من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، وللأمر رمزيته، وهو ما كان له أن يعلن لولا وجود ضوء «أصفر» أميركي على الأقل، أما لماذا أصفر وليس أخضر، فذاك يتأتى أو تؤكده التسريبات التي راجت في أعقاب ذلك الإعلان ومفادها أن واشنطن ستعمد إلى تزويد المقاتلات الإسرائيلية، نوع إف 35 بتقنيات تمكنها من التغلب على تكنولوجيا تلك الصواريخ، كما ذكر في حينها أن تلك التقنيات سوف تستقدم من قاعدة الظفر الإماراتية وتلك وحدها نقطة تستحق التوقف عندها مطولاً؟
هذه الموافقة الأميركية يمكن توصيفها على أنها موافقة مرتهنة بتوافقات عديدة لازمة أبرزها الدور الذي يمكن لموسكو أن تلعبه في عملية «احتواء» طهران خصوصاً بعدما فقدت واشنطن العديد من الأوراق الضاغطة عليها مؤخراً، وربما أبرزها اثنتان أولاهما حالة فك الشراكة الأميركية الإيرانية غير المعلنة في العراق وهو ما يتمظهر في مداولات عراقية داخلية ذاهبة نحو اتخاذ قرار بالاستغناء عن الوجود العسكري الأميركي، وثانيتهما حالة الشلل التام الذي تعيشه المملكة السعودية ككيان وظيفي أوكلت إليه مهمة مواجهة طهران ما بعد انتصار الثورة الإسلامية فيها العام 1979، وإذا ما صحت التقارير التي ذكرت أن المملكة قد شهدت في خلال العام الماضي مغادرة 1.6 مليون أجنبي فلسوف يكون توصيف الحالة بالشلل قاصراً عن رصدها بشكل دقيق قياساً إلى التركيبة الاقتصادية القائمة في البلاد، ناهيك عن أن الدفوعات المستلزمة لإخماد نيران الخارج باتت تفوق بكثير طاقة الناتج القومي لهذي الأخيرة، ومنها، أي من التوافقات اللازمة أيضاً، التوافق حول الدور الوظيفي الإسرائيلي في المنطقة مع مراعاة أن المفهوم الأميركي لهذا الدور قد تغير ولم يعد كما كان وفق المعطيات التي أفرزتها حرب حزيران 1967 والرؤيا الأميركية اليوم تقول إن الكيان بات اليوم يعيش حالة كسل وظيفي وفق معطيات حرب تموز 2006 وحروب غزة الأربعة 2008-2009-2012-2014.
وفق هذه المعطيات يبدو الموقف الروسي مرتبكاً خصوصاً في معرض تعاطيه مع الدور التركي المتنامي في الشمال والشرق السوريين، إذ لا يمكن بحال من الأحوال القول: إن لموسكو مصلحة في حدوث حالة «انتفاخ» جغرافية تركية على حساب الجار السوري فذاك ناهيك عن أنه سيشكل اختراقاً خطراً لاتفاق سايكس بيكو 1916 الذي أثبت أنه عصي على الاختراق حتى الآن برغم كم الزلازل والهزات الهائل الذي شهدته المنطقة، فإنه سيؤدي إلى اختلال كبير في توازنات إقليمية حساسة لن تساعد في إعادة الاستقرار للمنطقة، وربما كان هذا الأمر الأخير هو العامل الأهم في التوجهات الأخيرة للعديد من العواصم العربية نحو دمشق مؤخراً.
مهما يكن من أمر يبدُ أن موسكو تؤمن بتمرحل الخطوات ووجوب أن تأخذ هذه الأخيرة درجة النضج الكافية، وفي ضوء هذا السياق يمكن النظر إلى التقارير التي ترصد حشوداً ضخمة جوية في مطار حميميم على أن معركة عودة إدلب إلى الحضن السورية باتت وشيكة على الأرجح.
قريباً وربما قبل أن تحل الذكرى الرابعة، في آذار المقبل، سنرى عودة جبل الزاوية ليساوي صفوفه بين رفاقه اللذين سبقوه إلى صلاة جامعة يكون الإمام فيها الأشم قاسيون.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن