ثقافة وفن

الفارابي.. مركزٌ ثقافي في دمشق إحياء لذكراه

| نبيل تللو

هناك رجالٌ تنتهي ذكراهم مع آخر حبة رملٍ تُنْثَرُ على قبورهم، على حين أن هناك رجالاً آخرين تبقى ذكراهم عالقةً في أذهان الناس لا يمحوها تعاقب الأيام والسنين، إذ أن أعمالهم قد حصَّنتهم بالخلود غداة رحيلهم الأبدي، فتحوَّلت آثارهم وقبورهم إلى شموع يتناثر نورها حباً وعلماً يبقيان على مدى الأجيال المتعاقبة، ومن هؤلاء الفارابي، الذي أكتب عنه هذه المقالة، آملاً أن يتذكر كرام القارئات والقراء ما نسوه، وأن يتعرفوا على ما لا يعرفونه.
أبو نصر الفارابي، محمد بن محمد بن طرخان، المولود في «فاراب» في كازاخستان حالياً عام 257 هـ، 870 م، ومنها استمد اسمه، والمتوفى بدمشق عام 339 هـ، 950م، وهو، وإن كان من أصولٍ فارسية أو تركية، عروبي الانتماء الثقافي والحضاري والنفسي والاجتماعي، فيلسوفٌ عربيٌ إسلاميٌ، درس الفقه والحديث والتفسير، واعتنى بالرياضيات والطب والموسيقا، تحدثَّ عدداً من لغات عصره، ويُعَدُّ من أبرز شارحي كتب أرسطو، وأوائل من وضعوا الأسس للتصور الفلسفي للسياسة.

سافر يافعاً مع أبيه إلى بغداد حيث تعلم العربية ونهل من معين علمائها، ثم ذهب إلى حران وفيها تابع تحصيل الفلسفة والمنطق، ثم عاد إلى بغداد أستاذاً ومتفلسفاً، وأخذت التلاميذ تتوافد عليه ونبغ كثيرٌ منهم. ثم انتقل من بغداد إلى دمشق سنة 330 هـ، 941م، ومنها انتقل إلى مصر، ثم توجَّه إلى بلاط سيف الدولة في حلب فلزمه لما لقيه من الإكرام، وصحبه في حملته على دمشق، ولكنَّه لم يغادرها ثانيةً إذ توفي فيها.
يُعَدُّ الفارابي علامة مميزة في تاريخ الفكر البشري عامةً، فهو في عُرفِ الفلاسفة «المعلم الثاني» بعد أرسطو المعلم الأول، فقد كان نابغةً في مختلف ميادين الفلسفة إلى جانب بعض العلوم، ويدل لقبه المعلم الثاني على سمو مكانته وأهميته وأثره البالغ فيمن تلاه من الفلاسفة العرب خاصةً، وفي الثقافة العربية الإسلامية عامةً، فقد كان العماد الثاني بعد الكِندي في تأسيس دعائم الفلسفة العربية الإسلامية وتحديد هويتها وخصائصها واصطلاحاتها ومشكلاتها الخاصة، التي تمايزت بها من الفلسفة ومن الفكرين الهندي والفارسي، اللذين أمدَّا الحضارة العربية الإسلامية أيضاً بأفكارٍ مختلفة.
أخذ الفلاسفة والمفكرون اللاحقون عن الفارابي كثيراً من الأفكار والنظريات، وأفادوا من تأليفاته وشروحه وتعليقاته، حتى يمكن القول إنه كان له دور مهم في صياغة ملامح الفكر والوعي والثقافة في الحضارة العربية الإسلامية في مرحلته والمراحل التالية، إضافة إلى أنه بشروحه كتب أرسطو وأفلاطون قد أدَّى دوراً مهماً أيضاً في النهضة الأوروبية، لأن هذه الترجمات والشروح، إلى جانب جهود ابن سينا وابن رشد، كانت المهاد النظري للنهضة الأوروبية وتعريف الأوروبيين على الفلسفة اليونانية.
وتُروى عنه في الموسيقا أحاديث تشبه الأساطير، منها قصته مع سيف الدولة عندما عزف له في مجلسه مع الآلة التي ابتكرها وهي القانون، فأضحك الجميع، ثم عزف ثانيةً فأبكى الجميع، ثم عزف ثالثةً فأنامهم وتركهم وذهب، وهذا مما يدلًّ على عبقريته ونبوغه.
ترك الفارابي العديد من الآثار ما بين التأليف والشرح والتعليق، التي شغلت معاصريه ومَنْ بعدهم وفيما يلي استعراضٌ سريع لها:
– إحصاء العلوم، وفيه إحصاء العلوم المشهورة علماً علماً، وجمل ما يشتمل عليه كل واحدٍ منها، وأجزأ كل ما له منها أجزاء، وجمل ما في كل واحد من أجزائه.
– آراء أهل المدينة الفاضلة.
– التنبيه على سبيل السعادة.
– الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطو.
– السياسة المدنية، أو مبادئ الموجودات.
– المسائل الفلسفية والأجوبة عنها.
– تحصيل السعادة.
– عيون المسائل.
– فصوص الحكم.
– كتاب الموسيقي الكبير.
كما قدَّم الكثير من الشروح والرسائل، منها: الآثار العلوية لأرسطو، الأخلاق لأرسطو، الألفاظ الأفلاطونية وتقويم السياسة الملوكية والأخلاق، البرهان لأرسطو، الجدل لأرسطو، الخطابة لأرسطو، السماء والعالم لأرسطو، السماع الطبيعي لأرسطو، المغالطة لأرسطو، المقولات لأرسطو، جوامع كتاب النواميس لأفلاطون، شرح رسالة زينون الكبير اليوناني، كتاب المجطسي لبطليموس، مقالة في أغراض أرسطو وكل مقالة من كتابه الموسوم بالحروف، مقالة في العقل للإسكندر الأفروديسي، مقالة في معاني العقل، تعليقات الفارابي، رسالة الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطاليس.
يُشار إلى أن أغلب كتبه ورسائله هي من محفوظات مكتبة الأسد الوطنية بدمشق، مديرية المخطوطات والكتب النادرة، بنسخها الأصلية أو صور عنها، وبعضٌ منها قد تمَّ تحقيقه وطبعه.
هذه المكانة العلمية للفارابي، وانتماؤه لأراضي جمهورية كازاخستان؛ دفعا الحكومتين السورية والكازاخستانية لإقامة مركزٍ ثقافي له بجوار ضريحه في دمشق القديمة، حي الشاغور، شارع البدوي، جوار مقبرة باب الصغير، بتبرعٍ سخي من كازاخستان، وقد وُقِّعت لذلك بتاريخ 18/10/2007 اتفاقية، وتشمل أيضاً ترميم ضريح: «السلطان الظاهر بيبرس» بجوار المكتبة الظاهرية في دمشق القديمة أيضاً جوار الجامع الأموي، الذي ينتمي إلى تلك البلاد (625 – 676 هـ، 1228- 1277م)، وبتاريخ 14/2/2010 صدر المرسوم التشريعي رقم 20 المتضمن التصديق على الاتفاقية. ومن المتوقع افتتاح المركز الثقافي التاريخي والمكتبة الظاهرية قريباً بعد أن تمَّ الانتهاء من أعمال الترميم والبناء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن