ثقافة وفن

القلاع لا تموت بسهولة … قلعة شيزر مفخرة المنظومة العسكرية السورية

| المهندس علي المبيض

تمتاز سورية الطبيعية بموقعها المميز الذي يتوسط القارات الثلاث ويشكل هذا الموقع مفترق طرق بين أوروبا وآسيا وإفريقيا وتتميز بيئتها بالتنوع ومناخها بالاعتدال كما كانت مهد الديانات السماوية، ما هيأها ومنذ أقدم العصور كي تلعب دوراً رئيسياً في نشوء الحضارة الإنسانية وانتشارها حيث أكدت الدراسات والأبحاث العربية منها والأجنبية أن هذه المنطقة من العالم قد تميزت بأول وجود حضاري واعتبر علماء الآثار أن سورية كانت مركزاً لإحدى أقدم الحضارات على وجه الأرض ومنها انتشرت إلى أصقاع العالم كافة، ولما كانت سورية هي إحدى أهم محطات طريق الحرير التجاري ومركزاً لتقاطع طرق التجارة الدولية من الشرق للغرب ومن الشمال للجنوب فقد كانت مركزاً لتبادل الثقافات وانتشارها، لذلك فقد كان التاريخ السوري حافلاً بالأحداث الكبرى التي ساهمت بكتابة تاريخ المنطقة برمتها ونستكمل في مقالنا اليوم استعراض القلاع والحصون في مدينة حماة.

قلعة القاهر: تقع بالقرب من قلعة مصياف على قمة جبل القاهر ويبدو أنها كانت صلة وصل بين قلعة مصياف والقلاع القريبة المجاورة، ويرى بعض الباحثين أن قلعة مصياف كانت تعاني مشكلة عدم القدرة على مراقبة محيطها بشكل فعال، وهنا تجلت عبقرية السوريين وخبرتهم الدفاعية ما دفعهم قديماً للتفكير بضرورة بناء منظومة من نقاط المراقبة في محيط القلعة يمكن من خلالها تلافي نقطة الضعف هذه والإشراف الكامل على المنطقة برمتها وفرض السيطرة بشكل أقوى على كامل السهول المحيطة، فكان الحل بإيجاد نقطة مراقبة عبارة عن حصن في قمة جبل القاهر المطل على مصياف من جهة الغرب بشكل مباشر، ويشرف هذا الحصن بالوقت نفسه على الوادي المار من جهته الشمالية وهو الطريق الواصل بين مصياف ومنطقة الجبال الساحلية وبالأخص منطقة القدموس، وأصبحت قلعة القاهر صلة وصل ونقطة مراقبة مهمة تؤمن رؤية بانورامية لقلعة مصياف وجميع المناطق المحيطة بها ومن جميع الجهات وبشكل خاص من الجهات الشرقية والجنوبية والشمالية.
قلعة بعرين: وهي قلعة قديمة أطلق عليها الصليبيون اسم مونتفران، تقع شمال شرق قرية بعرين على بعد 40 كم غربي حماة على الطريق الواصل بين مصياف وحمص وتنتصب على قمة جبل يشرف على السهول الخصبة المحيطة، بها بنيت قلعة بعرين في القرن العاشر الميلادي على أنقاض قلعة بيزنطية ولكن بناءها الأساسي أقدم من ذلك لأن هناك دلائل قوية في محيط القلعة توحي بأنها تعود للفترة الرومانية، ازدادت شهرتها واتضحت أهميتها في العصر الأيوبي، حيث استولى عليها الصليبيون في القرن الحادي عشر الميلادي واستعادها صلاح الدين الأيوبي في أواسط القرن الثاني عشر ثم آلت للمماليك وقد عمد الأيوبيون والمماليك من بعدهم لتوسيع عمارة القلعة وتزويدها بتسفيح حجري إضافة إلى التسفيح الباقي من الفترة البيزنطية، حيث أصبحت تتألف من قلعة عليا وسفلى تحميها أبراج تستند إلى سفح حجري مرصوف بشكل مائل وتتكون القلعة من الأقسام التالية:
الخندق: عمقه يزيد على 10 أمتار من الجهة الغربية والشمالية للقلعة وقد حفر بشكل حاد من الطرف المتصل بجدران القلعة وبشكل مائل من الطرف الخارجي ما زاد من ارتفاعها.
الأسوار والأبراج: يحيط بالقلعة سور عريض مبني من الحجر الكلسي والبازلتي من الحجم الكبير من جهاتها الأربع يستند إلى السفح الحجري المائل من الشرق والجنوب وإلى جدار الخندق من الشمال والغرب وقد بني هذا التسفيح من الحجر البازلتي الصغير الحجم ليؤمن ميلاً حاداً ويجعل التسلق أمراً صعباً جداً ويزيد من حماية القلعة، ويوجد عدد من الأبراج المربعة الشكل من الجنوب والشمال والشرق وبرج دائري من الجهة الغربية يطل على الخندق المحيط وقد بنيت جميعها من الحجر الكبير الحجم.
القلعة الداخلية العليا: تقع في الشمال الغربي من القلعة وتستند إلى السور الخارجي من الغرب وقد زودت بسفح حجري مائل مبني من الحجر الكلسي كبير الحجم بشكل مربع يحمل سوراً تظهر بقاياه وبقايا بعض الأبراج المبنية من الحجر الأصغر حجماً.
القلعة السفلية: وتمتد إلى الشرق من العليا وقد زالت معالمها عدا عدداً من الآبار المعدة لجمع الماء ويحميها التسفيح والأبراج الخارجية.
قلعة شيزر: وهي من القلاع المهمة في المنطقة بل تعتبر مفخرة الأوابد الأثرية العسكرية السورية، يعود تاريخ بناء القلعة إلى الفترة السلوقية في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد وهي قلعة ضخمة تبلغ مساحتها نحو 3000 م2 تقع على مسافة 25 كم شمال غرب مدينة حماة وتتبع لها إداريا مع البلدة التي تحتضنها وتحمل الاسم نفسه، كما تبعد مسافة 3 كم عن مدينة محردة وهي تعتبر أحد أفضل الأمثلة عن العمارة العسكرية والمنظومة الدفاعية المتبقية إلى الآن، يقع إلى الغرب من هذه القلعة تل مرتفع ترقد تحته مدينة شيزر القديمة، وقد ورد اسمها بين أسماء المدن السورية القديمة باسم سيزار وسنزار، وقد ذكر اسم شيزر في رسائل العمارنة المتبادلة بين فراعنة مصر والحثيين في سورية خلال منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد، وسميت في العهد اليوناني باسم لاريسا ولكن السوريين أعادوا الاسم القديم باسمها الحالي شيزر، وقد ذكرها الشاعر امرؤ القيس في قصيدته الشهيرة عندما مر بها في طريقه إلى القسطنطينية إذ قال:
تَقَطّعَ أسباب اللُّبَانَةِ وَالـهَوَى عشِيّةَ جَاوَزْنَا حَمَاةً وَشَيْزَرَا
تتوضع قلعة شيزر على مرتفع صخري متطاول يسمى عرف الديك ترتفع أكثر من 50 م عما يحيطها، تطل على سهل العشارنة غرباً وتتصل من الجنوب بهضبة محردة وهي تمتد كلسان طبيعي باتجاه الجهة الشمالية ويحدها نهر العاصي من الشرق والشمال ليشكل حاجزاً طبيعياً، كما تم حفر خندق اصطناعي عميق عند جنوب القلعة لزيادة منعتها وقوتها وجعلها حصناً منيعاً يصعب تجاوزه، وموقع القلعة الإستراتيجي مكنها من الهيمنة على وادي العاصي والسيطرة على الطريق الجبلي المختصر الذي يربط الداخل بالساحل وشكلت ممراً آمناً ومحمياً فقد كانت نقطة تقاطع مهمة على نهر العاصي وطريق التجارة الداخلي العابر من خلالها، معظم جدران القلعة لا تزال بحالة جيدة إضافة إلى الجسر الحجري الذي يتم الدخول من خلاله للقلعة من جهتها الشمالية والبرج الشمالي والجنوبي والسرداب السري الذي يصل القلعة بنهر العاصي عبر خندق مكون من قناطر متباعدة لا تزال أيضاً بحالة سليمة، دلت التنقيبات الأثرية في القلعة على وجود سور منيع إضافة لبرجين يطلق على أحدهما اسم برج البردويل وحمام روماني كبير، برز دور القلعة عندما كانت تحت حكم أمراء العرب من عائلة بني منقذ خلال الفترة 1081 – 1157 م، وصمدت طويلاً أمام العديد من المحاولات اليائسة التي جرت بهدف احتلال القلعة من الصليبيين والبيزنطيين، ولم تنجح تلك المحاولات في انتزاع هذه القلعة ولم يفلح الصليبيون أبداً في احتلالها.
أدى الزلزال الذي حدث عام 1157 م إلى حدوث أضرار كبيرة فيها ومات تحت أنقاضها جميع سكانها بمن فيهم أسرة بني منقذ التي كانت تحكمها، كما تسبب هجوم المغول أيضاً ببعض الدمار، ثم اعتنى بها الأيوبيون وقاموا بترميمها وجعلوا منها آيةً من آيات الفن العسكري وخصوصاً عندما شيدوا لها أبراجها الأربعة عشر، تتميز أسوار القلعة بالطول الشاهق وذلك نتيجة للانحدار الشديد للقلعة، ومن معالم القلعة الفريدة التي يحرص الزوار على رؤيتها البرج الجنوبي الذي يدل علي روعة وجمال الفن الإسلامي.
وخلال الفترة العثمانية أصابها الإهمال وبدأت تتراجع وتفقد أهميتها العسكرية حتى تلاشت، وفي النصف الأول من القرن العشرين تم إخلاء القلعة من السكان لتبقى أطلال قلعة شيزر شاهدةً على فترات الازدهار والقوة التي مرت بها هذه المنطقة.
نقطة مهمة أجد أنه من الضروري الإشارة إليها وهي أن استثمار هذه المناطق والمعالم التاريخية في القطاع السياحي وإقامة المشاريع التنموية فيها هو أمر مهم جداً سيحقق فوائد عديدة قد يكون من أهمها التعرف على تاريخنا الحافل وتقوية روابط الانتماء إضافة إلى خلق فرص عمل ضرورية وخاصةً في هذه المرحلة الحساسة التي يمر بها بلدنا ويرفع بالتالي المستوى الخدمي والاجتماعي والمعرفي ويزيد دخل أبناء تلك المناطق.. وعندما نقول إقامة مشاريع سياحية فإننا لا نقصد بالضرورة أن تكون مشاريع من مستوى «الخمس نجوم» ويكفي أن تكون مشاريع تنموية تشجع بالدرجة الأولى السياحة الداخلية والشعبية التي يستفيد منها أكبر شرائح المجتمع السوري.
وبالنتيجة فإننا حين نستعرض إنجازات أجدادنا وتاريخهم فإننا نستلهم منهم التحفيز على الإبداع في حاضرنا واستشراف مستقبلنا، وببساطة فالإنسان الذي لا يعرف ماضيه ولا يستفيد من الأحداث التي مرت به فإنه يقع بالخطأ مرات عديدة ويكون كمن فقد ذاكرته ومن فقد ذاكرته يسر هائماً على وجهه متخبطاً في خطواته، وما يقال عن الفرد يقال عن الأمة، فالأمة التي لا تدرس تاريخها وتستفيد من ماضيها لا ذاكرة لها، ومن أهم ثمرات استعادة الذاكرة البرهنة على كفاءة عقلنا وقدرته على الإبداع والتفكير والمعرفة.
ونبقى نحن أصحاب وعشاق هذه الأرض نعيش عليها ونقدس ترابها ونورث حبها الأبدي للأجيال جيلاً بعد جيل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن