قضايا وآراء

بين سوتشي ووارسو.. صراع جيوسياسي على الشرق الأوسط

| محمد نادر العمري

يبدو اليوم أن دول منطقة الشرق الأوسط وأزماتها المتشابكة، هي أمام مفترق طرق أو خيارات حاسمة، على الأقل، من حيث شكل وطبيعة الحلول الممكنة والمبنية على العلاقات والمصالح المشتركة الطارئة حديثاً، والمخاطر والتهديدات الأمنية التي أفرزتها المتغيرات المتسارعة في موازين القوى وحجم الأدوار والتأثير.
فتركيا، مثلاً، تمكنت خلال السنوات الماضية، من استثمار واقع الصراع الأميركي الروسي حول سورية بشكل خاص، لتزيد من حجم دورها وتأثيرها في الخارطة الإقليمية، وتمكنت، في أكثر من مرة، أن تتحول إلى مركز تجاذب بين عواصم القرار في موسكو وواشنطن، عبر انتهاجها سياسة القفز على الحبال بين الجانبين للحصول على أكبر قدر ممكن من الإغراءات والمكاسب في شتى المجالات.
ولكن أنقرة اليوم في وضع لا تحسد عليه، وهي أمام خيارين لا ثالث لهما، إمّا الانخراط في محور أستانا وتفعيل مخرجاته، وما قد يترتب على ذلك من إعادة ضخ الدماء لاتفاقية أضنة مع الجانب السوري، أو التمسك بمشروع المنطقة الآمنة، والعودة إلى محور حليفتها الإستراتيجية التقليدية أي الولايات المتحدة الأميركية.
الخياران بالنسبة لتركيا أحلاهما مر، والصراع اليوم انتقل من صراع نفوذ دول إلى صراع محاور، وضمن هذا السياق يمكن معرفة سبب تزايد المؤتمرات الدبلوماسية، فمابين سوتشي ووارسو، صراع من شأنه تحديد المعالم الجيوسياسية للشرق الأوسط، لذلك فإن القدرة على نجاح أحد هذين المؤتمرين، سيكون له انعكاسات سلبية، وربما انتصار، على المحور الآخر وأطرافه.
وحتى اللحظة تبدو موسكو أقرب في إنجاح لقاء زعماء أستانا من خلال مؤتمر سوتشي عبر سعيها لتحقيق الأهداف التالية:
أولاً: إحداث خرق في العلاقة السورية التركية، وتهيئة الظروف ﻹجراء مصالحة بينهما على مراحل، وخصوصاً، بعد مبادرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالعودة لاتفاقية أضنة لعام 1998 بداية لإعادة هذه العلاقات، والتلقف الإيجابي من أنقرة ودمشق على حد سواء، لمبادرة الرئيس الروسي في إحياء هذه المبادرة.
وما يعزز هذا التوجه هو الرفض الروسي الصلب للمنطقة الآمنة، واستعداد طهران للتوسط بين أنقرة ودمشق، حسب تصريح وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أثناء استقباله لنظيره السوري وليد المعلم في طهران، وما سبق ذلك من اعتراف رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان بوجود علاقات مباشرة مع دمشق عبر أجهزة المخابرات، بعد خيبة الآمال التركية بالوعود الأميركية فيما يتعلق بمدينة منبج والانسحاب من شرق الفرات والاستمرار بدعم ميليشيا «قوات سورية الديمقراطية – قسد» بالسلاح.
ثانياً: حسم مصير مدينة إدلب وريفها، وهو الملف الأكثر حساسية، لاختبار جدية أردوغان في توجهاته، فالحسم العسكري سيكون أمراً واقعاً في حال استمرار التركي بالتنصل من اتفاق سوتشي لكسب المزيد من الوقت، لمقايضة إدلب بشرق الفرات أو لتشكيل جسم عسكري وهيكل سياسي يتضمن إعادة تدوير جبهة النصرة عبر إعادة ما سمّي المهاجرين العرب والأجانب لدولهم وتطعيم ما يسمى حكومة الإنقاذ بممثلين عن الفصائل المسلحة الأخرى.
ثالثاً: تعزيز مسار أستانا، ليتحول من مسار أمني عسكري إلى نواة تكتل اقتصادي وسياسي على مستوى المنطقة مع احتمالية انضمام العراق وسورية إليه، لذلك من المؤكد أن الاجتماع القادم سيتضمن الإعلان عن اكتمال تشكيل اللجنة الدستورية للبدء بالحل السياسي إن تمكنت موسكو من وضع مسار المصالحة السورية التركية على سكتها الصحيحة.
بينما يفتقر مؤتمر وارسو لأي مقومات ترجح كفته أو قدرته التأثيرية على مستوى المنطقة في تحقيق أجنداته، باستثناء التصريحات النارية التي سيشهدها والانجازات الإعلامية التي يسعى لها رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبيل خوضه الانتخابات البرلمانية المبكرة، وخصوصاً أن واشنطن التي تصر على سياستها التصعيدية تجاه المنطقة، غير قادرة على القيام بأعمال عسكرية، لذلك تتمسك بخيار الدبلوماسية الناعمة وما تتضمنه من إدارة الحرب بالوكالة، لتحقيق أجنداتها أو تحسين تموضعها التفاوضي مع إيران وروسيا وكوريا الديمقراطية والصين بأقل الخسائر الممكنة بتمويل خليجي.
لتعزيز هذا الخيار، ولتضخيم مؤتمر وارسو، سارع عرابو هذا المؤتمر من صقور إدارة ترامب مثل مايك بومبيو وجون بولتون إلى احتواء قرار ترامب بالانسحاب من سورية وفرض العقوبات الاقتصادية وتأزيم الوضع في فنزويلا والضغط على مصر، لإبراز المقدرات الأميركية في مواجهة إيران ووقف السباق الخليجي العربي الرامي لتصحيح مسار العلاقات مع دمشق، لإنجاح هذا المؤتمر الذي يتزامن انعقاده مع سوتشي، وهنا لا يمكن للصدفة أن يكون لها دور في توقيته، كما لأهدافه الجيوسياسية التي يتضمن أحد أهدافها باستهداف مسار أستانا وإيجاد محور أو مسار مواز له، فضلاً عن الأهداف الأخرى التي تتمحور حول تسريع الإجراءات التطبيعية بين الدول العربية والكيان الإسرائيلي واستهداف محور المقاومة واستمرار السياسة الترامبية في الابتزاز المادي للدول الخليجية.
مابين سوتشي ووارسو ليس فقط مساحة جغرافية، بل صراع وتنافس وكباش سياسي يعبر عن إرادات متناقضة، من شأنها أن تعيد رسم معالم المصالح الجيوسياسية في القريب العاجل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن