من دفتر الوطن

تنتصر لأمومتها

| حسن م. يوسف

تمتد جذور الرواية إلى ملاحم الأدبين الإغريقي والروماني القديمين، التي تتمحور حول أساطير الأبطال والآلهة مثل الإلياذة والأوديسة لهوميروس، إلا أن الرواية لم تصبح شكلاً ثابتاً من أشكال الأدب إلا في القرن الثامن عشر الميلادي.
أما الرواية الفنية العربية فلم تتحقق ولادتها إلا في عام 1914 عندما أصدر محمد حسين هيكل روايته (زينب) التي جسد فيها واقع الريف المصري محاكياً البنية الفنية للرواية الغربية.
عندما انتهيت من قراءة الفصل الأخير من رواية «رؤى» للكاتبة ابتسام العيسى قفز إلى ذاكرتي قول للكاتب المسرحي الإغريقي سوفوكليس الذي توفي عام 406 قبل الميلاد: «الأبناء هم المرساة التي تربط الأم إلى الحياة». فهذه الرواية التي تجري أغلبية أحداثها في العاصمة الإيطالية روما، تمجيد لأمومة المرأة السورية، التي تضحي بكل شيء في حياتها، من أجل أبنائها، بما في ذلك حبها وسعادتها.
في مطلع الرواية تمارس الكاتبة نوعاً من الإغواء المخاتل على القارئ، إذ تقدم له بطلة روايتها المهندسة الزراعية (رؤى) كأم لستة أولاد أنجبتهم من زواج تقليدي انتهى إلى البرود، تصل إلى روما كمديرة لمكتب منظمة الأغذية والزراعة التابع للأمم المتحدة، وعقب وصولها إلى تلك البلاد، تطلق صوتها الداخلي وتخاطب نفسها قائلة: «تقدمي.. لا تنظري خلفك، فرصتك الكبيرة قد حانت، وجاء موعد تحقيق الحُلم الذي حلمْتِ به طويلاً».
والحق إن هذه العبارة المقتضبة المكتوبة بمقاطع قصيرة نزقة، ترسل للقارئ وعوداً مثيرة غامضة. إلا أن الكاتبة ابتسام العيسى تفاجئنا حد الصدمة إذ تروي لنا قصة حب مركبة من نوع آخر. صحيح أن الكاتبة لا تحرق ورقة المغامرة بسرعة، إذ تجعل بطلتها تقع في حب شخص يدعى نبيل وترافقه في نزهات خاصة إلى عدد من الأماكن المتميزة داخل روما وخارجها، إلا أن قصة حب رؤى تتوقف قبل بلوغها الذروة، لأن الحب لم يهبها السلام، لذا كان لابد لها في النهاية أن تختار طريقها وتتحمل مسؤوليتها الخاصة كأم، فتقرر لجم قلبها والعودة إلى أسرتها، للدفاع عمن أنجبتهم إلى الحياة.
ترصد الروائية ابتسام العيسى بطلتها «رؤى» في كل حالاتها، كما ترصد من يدورون في فلكها، وهي تفعل ذلك بواقعية وإقناع، غير أنها لا تخفي من صفحاتها الأولى أن هدفها ليس مجرد الإمتاع والتَّسلية، فهي كاتبة مشغولة بهموم الوطن والإنسان. ولا تكتفي بتصوير مجريات حياة بطلتها كما هي، بل تركز على أفكارها ومشاعرها أيضاً.
لا تلتزم هذه الرواية خواص وتقنيات أي مدرسة معروفة في الكتابة الروائية، إلا أنها أقرب ما تكون إلى مدرسة الرواية الجديدة التي انتشرت في أوروبا خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إذ رفض أتباع هذه المدرسة وعلى رأسهم الآن روب جرييه السمات التقليدية للرواية، مثل الحبكة المنظمة والشخصيات الواضحة المعالم وركزوا على وصف دقيق للأشياء والأحداث كما هي. وما يعزز هذا الرأي أن الكاتبة تعمدت ألا تكون لروايتها نهاية درامية تقليدية. تمتلك الروائية ابتسام العيسى معرفة وخبرة طيبة بأكثر الأمكنة تميزاً في العاصمة الإيطالية روما مما يضفي على نصها جاذبية خاصة، فهي تسمي الأماكن بأسمائها، وتصفها بخواصها ومزاياها، وتحدد المسافات الفاصلة بينها، مما يعبر عن خبرة معاشة، وملاحظة دقيقة. كما تمتلك الكاتبة أسلوباً سلساً ولغة جذابة تشاغب عليها في بعض الأحيان الصور الذهنية وبعض المفردات القاموسية التي لم تعد في التداول.
أحسب أن القارئ الباحث عن المغامرات الغرامية والإثارة قد يفاجأ عندما ينتهي من قراءة هذه الرواية كونها تنحو منحى آخر، إلا أن الروائية ابتسام العيسى، تنجح في مخاتلة القارئ كي يتابعها حتى نهاية نصها الذي يطمح لأن يكون شهادة حية عن تضحيات الأم السورية في زمن الحرب. بكلمات أخرى يمكن القول إن الروائية حاولت أن ترصد بدقة وأمانة، وقائع وتقلبات هذه المرحلة من عمر مجتمعها، مما يجعل روايتها نصاً تاريخياً من نوع آخر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن