ثقافة وفن

فيها أشجار تحمل الواحدة منها أربعة ألوان في بطن واحدة … غوطة دمشق رئة ومربع أحلام الدماشقة ومهوى أفئدتهم

|منير كيال

حبا الله مدينة دمشق غوطة لا مثيل لها على أرض المعمورة، كانت بساتينها تحدق بدمشق إحداق الهالة بالقمر، وتكتنف دمشق اكتناف الكأس بالزهر.
وقد أعجب العرب بالغوطة وارتحلوا إليها، وأخذوا بأشجارها ونسيمها العليل، فكانت تستوحي الشعراء، وتشد إليها الرحالة، وتعجب القاصدين وقد وصفها الخليفة العباسي بأنها: خير مغنى على وجه الأرض.
ولو أردنا الوقوف على ما قيل بغوطة دمشق لطال بنا المقام، ولكن ما سنتوقف عنده بهذا البحث إنما هو إلمامة أو ومضات هي غيض من فيض.

فقد عد الخوارزمي الغوطة جنة الله في أرضه، وقد فاقت ببهائها ورونقها، والتفاف أشجارها صفد سمرقند، وبزن شعب بوان وجزيرة الأبلة، على ما لهذه الرياض من التحاف أشجار وسخاء مياه.
وقال بها النويري في نهاية الأدب: إنها شرك العقول وقيد الخاطر، وعقال النفوس، ونزهة الناظر خلخلت الأنهار سوق أشجارها، وجاست المياه ظلال ديارها، وصافحت أيدي النسيم أكف غدرانها، وتقلب في باطنها عوانس أغصانها، حتى إن سالكها يخال أن الشمس على أثوابه دنانير لا يستطيع أن يقبضها ببذان، كما يتوهم المتأمل بثمارها أنها أشربة قد دفقت بغير أوان في كل أوان.
فيا لها من رياض من لم يطف بزهرها، من قبل أن يخلق فقد قصر، ويا لها من غياض من لما يشاهدها فاته من عمره الأكثر.
وذكر العمري في المسالك والممالك الغوطة بقوله: بها البساتين الأنيقة، تتسلسل خلالها الجداول وتتغنى دوحاتها بتمايل أغصانها وتغرد أطيارها، وبهذه البساتين الضخمة، والجواسق العلية والغرس الممددة، تتقابل الأواوين والمجالس وتحف بها الغراس والنصاب المطرزة بالورد الملتف، والحور الممشوق والرياحين المتأرجحة، والفواكه الجنية والثمار الشهية، والبدائع التي تغنيها شهرتها عن الوصف.
كما روى البدري في نزهة الأنام في محاسن الشام.
إن في غوطة دمشق أشجاراً تحمل الواحدة منها أربعة ألوان في بطن واحدة كالمشمش والخوخ والتفاح والكمثرى (الإجاص)، ومنها ما تحمل ثلاثة ألوان، وأقلهن اللونان، ومن ذلك أن شجر العنب تطرح الواحدة منها العنب الأبيض والأحمر والأسود، وشجرة التوت تطرح الواحدة منها التوت الأبيض الهزاز والتوت الشامي بطريقة التطعيم، وقد امتد ذلك التطعيم وانتشر، فشمل الأشجار التي تنمو في باحات الدور (أرض الديار)، وقد رأيت بأم عيني أن ببناء مدرسة ابن هانئ الأندلسي المقابل لبناء السيدة رابعة الشامية بحي القيمرية شجرة واحدة من أشجار النانرج (الزفار) تطرح ثمار النانرج واليوسفي والليمون الحامض.
فإذا حل الربيع بغوطة مدينة دمشق تتزين هذه الغوطة بآيات الإبداع الإلهي، وتتطرز بسيمفونية من ألوان الزهر والعبق التي تعم كل ذرة تراب من الغوطة، وبالتالي ما بالغوطة من كائنات ترفل بالزهر الأبيض والأصفر والأحمر بل الأزرق تراه يتمايس مع كل هبة نسيم، وتغنج مع كل همسة عندليب وشدو كنار، وسكون خاشع إذا استراحت عليها فراشات الحقل، لتتسابق تسابق النحل بارتشاف رحيق الزهر من أغصان وأكنان الأشجار وأفنانها، فينتشر عبقاً يحجب زرقة السما، بسحائب لا تلبث أن تتبدد مع إغفاءة المساء.
شدتني هذه الأفانين إلى مرابع طفولتي وجعلتني أتمنى أن أعيش هذه الطفولة ثانية وتوارد إلى خاطري يوم جعل الأسلاف من هذه الغوطة محط أنظارهم ومهوى أفئدتهم، وأولوها جل عنايتهم، فأنشؤوا فيها المزارع، وشقوا بأرضها الترع والجداول، وأبدعوا في استثمارها واستنباتها على نحو ما نقله إلينا الرحالة العرب والأجانب.
وإذا زاد عدد بساتين الغوطة على خمسة آلاف بستان للعنب والتين أيام ابن شداد فإن تلك البساتين والكروم لم يكن يفصل الواحد منها أكثر من حاجز ترابي (دك)، وبوابة خشبية كانت بمنزلة دليل للعابرين خشية التجوال بالأراضي المزروعة بالخضر والبقول، ذلك أن بساتين الغوطة لم تكن مغلقة بوجه الزائرين والمتنزهين.
هذه هي غوطة مدينة دمشق رئة هذه المدينة ومربع أحلام الدماشقة ومهوى أفئدتهم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن