ثقافة وفن

قصر ينبعث العطر من جدرانه … قصر ابن وردان في حماة تحفة أثرية فريدة يفوح منه أريج الورد مع هطل الأمطار

| المهندس علي المبيض

تندرج المقالات الأسبوعية التي نقوم بنشرها ضمن منهاج التعريف بالتاريخ السوري العريق ومواطن قوته وللدلالة على عظمة سورية وأصالة السوريين والدور المهم والرئيسي الذي كانوا يؤدونه في تصدير الحضارة والعلوم والثقافة إلى مختلف أرجاء العالم، ومنذ بداية الوجود البشري شكلت الحضارة التي أسهم السوريون بصناعتها حلقةً رئيسيةً ومهمة في سلسلة الحضارة الإنسانية، ويؤكد الباحثون المحليون والأجانب أن سورية بما تمتلكه من تراث ثقافي وآثار تعتبر خلاصة لتاريخ العالم. ‏

وضمن هذا السياق فقد استعرضنا في المقالات السابقة عدداً من القلاع والحصون في بعض المحافظات في معرض حديثنا عن المعالم التاريخية في سورية التي مازالت حتى اليوم تشهد على صمود السوريين وشموخهم واستبسالهم في الدفاع عن هذه الأرض الطاهرة بشتى الطرق والأساليب والأدوات وإصرارهم الدائم وعلى اختلاف المراحل التاريخية لتحقيق ذلك، وتعطي مؤشراً عن القوة والمنعة لديهم من خلال تسليط إضاءات بسيطة على بعض النقاط المشرقة من تاريخنا الحافل مؤكدين بذلك أن ثقافتنا هي هوية ذات جذور عميقة ضاربة في التاريخ وهي ثمرة لما تم إنجازه في الماضي وحتى وقتنا الحالي، ونهدف من خلال استعراضنا هذا إلى مد جسور التواصل الحضاري والثقافي بين الماضي والحاضر بغية السير بثقة وعزيمة نحو المستقبل، ولاشك أننا جميعاً أصبحنا متيقنين أن أعداء سورية يسعون باستمرار وبشتى الطرق والأساليب لتشويه التاريخ السوري وتزويره ونسب الأعمال المشينة له وإلصاق كل الصفات القبيحة والمذمومة به كي يتبرأ السوري من تاريخه وماضيه ويشعر بالخجل منه وبذلك ينجح أعداؤنا بقطع الحاضر عن الماضي ولا يخفى على أحد أن التاريخ هو الذاكرة التي تختزن تجارب الإنسان، ومن استوعب التجربة تجنب تكرار الخطأ ومن وعى التاريخ في صدره فقد أضاف أعماراً إلى عمره وكذلك فمن يستغن عن تاريخه وماضيه فإنه يتخلى عن أحد مقومات استمراره ووجوده وما يقال عن الفرد يقال عن الأمة.
وما دمنا قد تحدثنا في المقالات الأخيرة السابقة عن بعض المعالم التاريخية والأثرية في مدينة حماة فإننا نجد أنه من الضروري استعراض معلم فريد لا يماثله أي مبنى أثري في العالم إنه قصر ابن وردان.
في القرن السادس الميلادي أي قبل نحو 1400 عام تقريباً وتحديداً في العهد البيزنطي أراد الإمبراطور الروماني جوستنيانوس الأول (527-565) م أن يبني قصراً فريداً في الشرق لا يماثله أي مبنى آخر في العالم كي يخلد اسمه ويكون مثالاً على ازدهار فترة حكمه وشاهداً على عظمة الإنجازات التي تمت خلالها فاختار البادية الشرقية لمدينة حماة لبناء أحد أشهر القصور في التاريخ الذي عرف فيما بعد باسم قصر ابن وردان وقد غدا بالفعل تحفةً معماريةً متميزةً وفريدةً على مستوى العالم يأسر الزائر بإبداعه الهندسي والفني المتقن ويشبه في طرازه المعماري طراز المباني الملكية المشيدة في القسطنطينية خلال فترة حكم الإمبراطور جوستنيانوس الأول.
يقع قصر ابن وردان إلى الشمال الشرقي من مدينة حماة ويبعد عنها مسافة 60 كم وهو آبدة تاريخية ذات ندرة معمارية وفنية متفردة عن غيرها من المباني التاريخية، ويتميز القصر بأسلوب معماري غاية في البراعة وتمتزج فيه أساليب معمارية متنوعة حيث استخدمت في بنائه مواد بناء خاصة ومتميزة ضمن نسق معماري وفني غاية في الجمال، ما يدل على الازدهار الفني والعمراني الذي كان سائداً في تلك الفترة نظراً لفرادته المعمارية ويمتلك سراً لا نظير له ميزه خلال مئات السنين التي مرت عليه إذ تفوح منه رائحة الورد العطرة المنعشة كلما هطلت عليه الأمطار أو رش الماء على جدرانه وهي ميزة لا تجد مثيلاً لها في أي مبنى آخر في العالم وهذه الظاهرة ما زالت موجودة حتى اليوم وقد فسر الباحثون وعلماء الآثار هذه الظاهرة أنها بسبب استخدام الطين الممزوج بالأعشاب والورد الجوري في بناء جدران القصر ما أدى لانتشار عدد من الأساطير بين السكان المحليين وزوار القصر منذ مئات السنين خاصةً أن رائحة الورد تفوح من جدران القصر كلما هطلت الأمطار.
والميزة المعمارية الثانية هي في اختلاف مواد البناء المستخدمة في بناء قصر ابن وردان عن المباني التاريخية السورية الأخرى التي بنيت في الفترة نفسها حيث استخدم في بناء القصر الحجر المختلط بالآجر الأحمر، ومرد ذلك كما ذكرنا آنفاً لأنه يندرج ضمن رغبة الإمبراطور تخليد اسمه ببناء قصر متميز عن المباني المماثلة، يتكون القصر من ثلاثة مبان وهي الكنيسة الكبيرة وهي ما زالت بحالة جيدة والقسم الثالث مبنى عسكري متهدم هو الثكنة.
تقع الكنيسة في الجهة الغربية من القصر وهي مستطيلة الشكل أبعادها 19 م x 15 م تقريباً يبلغ ارتفاعها نحو 20 م وهي تشبه إلى حد كبير كنيسة سان فيتال في إيطاليا التي بناها الإمبراطور جوستنيانوس الأول، تتكون الكنيسة من طابقين تعلوهما قبة تستند على دعائم ضخمة وللكنيسة مدخل من الجهة الجنوبية يعلوه عتبة من البازلت تحمل كتابات يونانية ترجمتها للعربية « هذا الباب صنعه اللـه وسيدخله كل الصالحين» مؤرخة في عام 564 م يتوسط الكنيسة جناحان وتزدان جدرانها وأرضيتها بلوحات رائعة من الفسيفساء الملونة والرخام وما زالت هذه اللوحات موجودة حتى اليوم، وللكنيسة قبة ذات رقبة مثمنة تعرضت رقبة القبة للهدم وما يزال جزؤها الشمالي قائماً وهذا يدل على إتقان بنائها المستند على الخبرة التراكمية الكبيرة لدى السوريين وتفوقهم في فن العمارة، أما الطابق العلوي فيضم رواقاً ذا ثلاث قناطر يطل على بهو الكنيسة من الداخل، ويعتبر القصر من أجمل وأكبر المنشآت الثلاث وهو متصالب الشكل تبلغ مساحته نحو 2000 م2 ويأخذ شكلاً مربعاً طول ضلعه 45 م ويتكون من طبقتين مبنيتين من الحجارة السوداء وألواح الآجر الكبيرة، يتوسط الطابق الأرضي فسحة سماوية مربعة الشكل طول ضلعها نحو 25 م، وتحيط بها الغرف من جهاتها الأربع وأروقة عرضانية بالجانبين ويتصل بالأروقة صفان آخران من الغرف أما سقوف الغرف فهي على شكل أنصاف قباب مفلطحة ويسمى أسلوب بنائه بالأبلق أي تناوب ثلاثة ألوان من الحجارة البازلتية من النمط الأزرق مع الحجر المختلط بالآجر الأحمر وهذا التناوب قائم في جدران القصر وهو مثال عن طراز العمارة السورية القديمة، ويتوسط الطابق الأرضي إيوان ممتد بشكل عرضي وينفتح على الفسحة السماوية الداخلية، أما الطابق العلوي فيقع مدخله في الواجهة الجنوبية ويصعد إليه بدرج مكون من 22 درجة على يمين الإيوان ولا تزال دعائم الطابق العلوي الوسطية المربعة موجودة كما تضم الجدران نوافذ تعلوها أقواس مدببة الشكل من الحجارة الكلسية وهو أيضاً من نماذج العمارة السورية القديمة ورصفت أرضية غرف القصر بالحجارة الكلسية، والقسم الجنوبي من الطابق العلوي واضح المعالم وهو عبارة عن رواق يمتد إلى الشمال له سقف معقود على شكل قبوات متقاطعة وسقف آخر نفقي ينفتح على الباحة الداخلية، أما أكثر المنشآت الثلاث تضرراً فهو الثكنة وتقع جنوب شرق القصر وقد تهدم معظم أجزائها وطمر تحت التراب ماعدا الزاوية الشرقية للسور الخارجي، وبضعة أقسام من البناء المتوسط يقع مدخلها الكبير في الجهة الشمالية تعلوه عتبة بازلتية طولها نحو أربعة امتار مكتوب عليها سطران باللغة اليونانية القديمة نصها « في شهر تشرين الثاني من خمس عشرية الثالثة عشرة من سنة 873 ( سلوقية) عام 561 م الكل لجلال اللـه» إلا أن ما تبقى من الثكنة يكفي لتصورها فالثكنة بالأصل تتكون من طابقين وتضم فسحة سماوية شكلها أقرب للمربع أبعادها 36 م x 38 م وهي مشيدة بمداميك من الحجارة البازلتية والآجر بأسلوب الأبلق بشكل مشابه لبناء القصر والكنيسة.
أما سبب تسمية القصر بهذا الاسم فهو حديث نسبياً ومتأخر عن فترة بنائه ويعود إلى نحو ثلاثة قرون تقريباً وينسب إلى أحد شيوخ قبائل البادية الذي اتخذ من القصر نزلاً له وسكناً ويدعى ابن وردان، وكانت عادة البدو أن ينسبوا المواقع لمن يسكنها ولو لفترة قصيرة ويتناقل أبناء المنطقة المحيطة بقصر ابن وردان أن الأطباء ينصحون مرضى الاكتئاب والأشخاص الذين يشعرون بالضجر والملل ويعانون الهموم الحياتية بزيارة القصر في موسم الأمطار حيث تساعدهم الرائحة المنبعثة من القصر في التخفيف من أعراض الاكتئاب والعودة إلى حياتهم الطبيعية.
وبمناسبة الحديث عن قصر ابن وردان نجد أنه لابد من تأكيد أهمية التاريخ السوري والمقومات الثقافية والتراثية كأحد أهم روافع الفن والفكر والثقافة والاقتصاد والتنمية المجتمعية التي يمكن الاستفادة منها واستثمارها في تشكيل الذاكرة الجمعية للسوريين وتأسيس أرضية مشتركة بين جميع شرائح المجتمع السوري على اختلاف أطيافهم وألوانهم، وتأكيد وحدة الجغرافيا والتراث الثقافي منذ فجر التاريخ.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن