ثقافة وفن

الاختفاء والحب

| إسماعيل مروة

هل يمكن أن يكون الاختفاء نوعاً من الحب؟ سؤال يتبادر إلى الذهن، ونحن نعالج أو نقرأ حالات الحب، والجواب ببساطة: إن الاختفاء والتواري من درجات الحب العليا، وخاصة إذا أخذنا في الحسبان أن الخشية من أعلى مراتب الحب، الخشية من أن تجرح صورة من نحب، أو صورة ما نحب، وهذا الإحساس المدعو بالخشية من السمو والعلو في مكان حيث يتفوق على مراتب الحب المعروفة والملموسة، ولا يصل إليها إلا نخبة من الناس العارفين بالحب ومصادره ومآله ونوازعه. فالحب ليس مرضاً والتصاقاً بمن نحب أو بما نحب، وعلى المحب أن يفكر ملياً في الطرف الآخر الذي يحبه، فهل يملك القدر نفسه من الحب، أم إنه يرتفع أو يستغل حسب النوازع والكوامن؟ هل هو آني أم سرمدي أبدي: هل يرتبط بانتماء لا حيلة لنا به؟ هل يتعلق بدم أو برحم لم يكن اختياراً؟ هل هو خيار؟ والخيار أعلى من انتماء لا قبل لنا به! المهم أن الحب عندما يكون خياراً يصعب تفسيره أو تأويله، بل يصعب تصديقه من أعلى قمة في الحب إلى أصغر تفصيل في مسام شارد انتفض ذات لحظة من حب، ولم يكن بحسبانه أن يفعل، فاكتشف أنه حياة ممتدة بين سرمدين يمتدان لحظة من دهر لا تعرف الانتهاء، الانتماء يعيد، والدم يردّ، ولكن الخيار في الحب قرار، والقرار يتحمل الإنسان عواقبه، ولا يحق له أن يتذمر منه ومن عقابيله مهما كانت، بل تخشى كل الجوارح من أن ينال هذا الحب ما يؤرقه أو يؤجله أو يلوثه، والخشية تجعل المحب غير قادر على اتخاذ ما يؤلم هذا الحب، وإن فعل ذات لحظة، فهذا يعني أنه لم يكن حباً حقيقياً، بل كان نزعة أو نزوة إلى ما نفتقد، ولا يجوز أن نلصق به صفات الحب السامية أبداً إلى المطلق الذي ينتظر غيثاً يهطل من العلياء ليروي جوفاً محترقاً منتظراً العطاء.. الحب مع من، أو مع ما هو رغبة في فنجان قهوة لا تقبل التأجيل، ولا تخضع لمقاييس الزمن، بل تعمل على قهر الزمن، ليستلّ أحدنا قهوته ويجلس في قمة قاسيون يرقب ما يحب، أو يجلس في معبد يتبتل في محراب لا يصدق أحدنا أنه محراب، والدهشة تعلو كل شيء، من جماد وحياة، من أشياء، ومن روح دفعت إلى الأشياء روحاً، وهي تطلق صرخة من نشوة القرب تفسر قول الصوفي: قلبي يحدثني بأنك متلفي، وعند انتهاء اللحظة والصرخة يعجز عن قراءة ما ختم به الصوفي: روحي فداك عرفت أم لم تعرف، فكيف يكون الافتداء والفداء للحظة قدرية هي الخلود المتناهي والمتماهي في الذات لا الآخر!
وحين ترحل قهوتك المسكرة بشراب أو بسواد، تنتابك الخيبة لأن اللحظة المختارة قرار، والقرار عندما تغيب عنه الدهشة يصبح موعداً مرسوماً للحظة مكتوبة، التصور يستوعبها، والشراب يغطيها، وتغيب ملامح الخشية عند المحب!
ليس هذا كلاماً في الحب وحذلقاته، وليس من قبيل تزجية القول والوقت، فالحب خشية، والخشية ذاتية وخارجية، لمن نحب وما نحب، ولو أننا فهمنا أن الحب خيار واختيار وسعي إلى الخلد المنهمر ذات لحظة لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه في كل تفصيل من التفاصيل.
حين لا ندرك أن الحب خشية نصبح وقحين
وحين نظن أن ما نحب لا يشعر، ومن نحب آلة، نصبح متسولين على قارعة طريق.
لو أننا نحب ذواتنا أولاً، لحرصنا على أن تكون نقية وسامية.
ولو أننا نحب من نحب لدخلنا في تلافيفه وعرفنا ما يشعر به وما يعيشه.
لو أحببنا أوطاننا لقدمنا ما يترتب علينا، وغادرنا الشاشة في الوقت الذي نشعر به أن الدهشة لم تعد موجودة، فكم من غير جدير أوهم بالحب، ولم يكن لائقاً، ولكنه عندما غادر تبين أنه لص وتافه وكاره؟ لو كان محباً حقيقة لاختفى، والاختفاء يكون فيما يجيد ليعيد بناء حب، فكم ممن سمعنا ورأينا غادر ليعود أستاذاً يبني أو تاجراً يخدم، أو جندياً يحرس؟ إلا في أوطاننا فلأننا لسنا محبين، المدير يجب أن يبقى مديراً، وإن عزل عاش عمره يبكي ويندب ويشتم ويعارض، وكأنه يجب ألا يغادر! يفعل ذلك لأنه غير جدير، ولا يجيد فعل شيء آخر، وهو اختفى في موقعه وراء مصلحة يدركها، ووراء جهل يؤمن به في قرارة نفسه، لكنه لا يعترف به، وحين وصل عرف بعض التفاصيل، وحين عزل يجلس ليشتم بتفاصيل عرفها في غفلة من زمن، بل يحاول رسم كل شيء للآخرين!
فهو المحب الوحيد! وهو العالم الوحيد! وهو الخبير الوحيد!
ويستثني من كل الصفات صفة اللص الوحيد الذي اغتصب ما ليس له، ولم يشأ أن يعترف بعجزه، بل صار يصبو إلى أسمى!
الذي يحب وطنه يختفي عند اللزوم ليخدمه ويعشقه على طريقته، الذي يحب وطناً يختفي إيجاباً ليخدمه، أما الظهور فهو انحياز إلى المصلحة لا الخبرة، وأي انحياز هو ميل إلى آخر يؤكد أنه ليس العشق وليس الحب، وليس التماهي.
والذي يحب شخصاً يختفي ليحبه أكثر، ولينسج حكاية من صوف وصوفية وعشق ليقضي وقتاً قد يساوي عمراً في صنع كنزة صوفية ضوءها نور عين، وجهد بالسنارة الهادئة ليكون لائقاً إذا ما اقتحم عليه المحب أو داهم بنفسه المحبوب ليعرف حقيقة المقاس المتخيل لحب ليس متاحاً.
أكون أنا عندما أكون محباً في الحضور والغياب
أقفل النوافذ التي يمكن أن تجعلني منحازاً لغير الجوهر
فأي تعرض لهواء أو هوى يسبب انحيازاً عمّا نحب وعمن نحب
ويصبح الاختفاء احتفاء بالحب، والتصاقاً بالذات التي أحرقت المراكب لوطن وإنسان، ولا تكترث لجلجامش وخلوده، فالخلد والخلود هو ما يحياه، ولا تعتني بعرش بلقيس، فلبلقيس عرشها، ولها عرش لم تدركه عينا بلقيس.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن