الذكرى السنوية الخامسة لعودة القرم إلى روسيا … التاريخ.. الحاضر.. آفاق المستقبل
| بقلم سعادة السفير: ألكسندر يفيموف - سفير روسيا الاتحادية لدى الجمهورية العربية السورية
في 16 آذار عام 2014 اتخذ سكان شبه جزيرة القرم، الواقع على الساحل الشمالي للبحر الأسود في استفتاء عام، قراراً يقضي بأن يصبح القرم جزءاً من روسيا. وفي اليوم التالي أعلنت جمهورية القرم استقلالها، وبعد يوم من ذلك، أي في 18 من اذار، عقدت معاهدة مع روسيا الاتحادية تنص على دخولها ضمن كيان روسيا الاتحادية. وهكذا فنحن نحتفل اليوم بالذكرى السنوية الخامسة لعودة القرم إلى روسيا. وهذه مناسبة جيدة لتذكّر تاريخ هذا الإقليم واستعراض مجمل النتائج المرحلية لـ«الحياة الجديدة» في شبه الجزيرة، والنظر في آفاق مستقبل تطوره بصفته أحد مكونات روسيا الاتحادية.
عرض تاريخي
يعتبر تاريخ القرم منذ القدم جزءاً من تاريخ روسيا، فهناك «مهدها الروحي» وهو مدينة «خيرسونيس» (في موقع ليس بعيداً عن مدينة سيفاستوبل الحالية)، حيث اعتنق الأمير فلاديمير العقيدة المسيحية في القرن العاشر، ثم ما لبث أن جعل الأرثوذكسية الديانة الرسمية لروسيا باُسرها.
وخلال حكم كاترين الكبيرة (الثانية) تم ضم القرم إلى روسيا في عام 1783، وأصبح هو المخفر الأمامي لبلادنا على حدودها الجنوبية.
وقد غدت حرب القرم خلال الأعوام 1856-1853 تمثل صفحةً بطوليةً مشرقة في تاريخ القرم الروسي، إذ جابهت روسيا آنذاك الحلف المؤلف من بريطانيا العظمى وفرنسا، والإمبراطورية العثمانية. وكان المشهد الرئيسي في هذه الحرب هو الدفاع البطولي عن سيفاستوبل (من أهم مدن القرم، مركز حياته الثقافية والاقتصادية)، ما أظهر أفضل الخصال التي يتحلى بها العسكريون والمهندسون والأطباء الروس.
وبعد مرور ما يقارب القرن وقعت سيفاستوبل من جديد، إبان الحرب العالمية الثانية في طوق الأعداء، إذ حاصرتها في هذه المرة قوات المحتلين الألمان. وعلى الرغم من أن القوات السوفييتية تركت المدينة بعد دفاع عنيد دام تسعة أشهر، فإن رجولة سكانها، وبسالة البحارة والجنود السوفييت الذين قيدوا أعمال قوات العدو الضخمة في جنوبي البلاد قد أسهمت بقسط ضخم في النصر النهائي الذي أحرزه الاتحاد السوفييتي في هذه الحرب.
وقد أصبح القرم منذ السنين الأولى لوجوده ضمن كيان روسيا مكاناً يجذب إليه القوى الإبداعية في بلادنا. فقد كرّس له أعظم شعراء روسيا الكسندر بوشكين العديد من قصائده. كما ارتبط بالقرم أحد أول النجاحات الأدبية التي أحرزها ليف تولستوي، وهو مجموعة «قصص من سيفاستوبل» لضابط شاب شارك في الدفاع الأول عن المدينة، وسرعان ما اكتسبت هذه المجموعة سمة «الأكثر رواجاً» في ذاك الحين، ولفتت انتباه جمهور القراء إلى كاتبها الموهوب. ولو وضعنا قائمة بسيطة بعناوين أعمال الشعراء والكتاب والرسامين الروس، المكرسة للقرم لملأت القائمة عدة أعداد من هذه الصحيفة.
وهكذا أصبح القرم جزءاً لا يتجزأ من تاريخ روسيا ومعلماً لمجدها العسكري، ومركزاً لإمكانات روسيا الإبداعية الكامنة.
وفي عام 1954 نقلت السلطات السوفييتية القرم إلى كيان جمهورية أوكرانيا السوفييتية (التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي) وفق الاعتبارات الإدارية-الاقتصادية.
في ذلك الحين في الدولة الموحدة كان من الصعب على المرء أن يتصور العواقب التي يمكن أن تنتج عن هذه الخطوة.
خلال فترة تفكك الاتحاد السوفييتي أصبح الشعب الروسي هو أكبر شعب مقسَّم في أوروبا. وكان من بين أبناء وطننا الذين ظلوا يتكلمون اللغة الروسية ويعتبرون أنفسهم من حَمَلة الثقافة الروسية، ولكن شاءت الأقدار أنه يجدوا أنفسهم مواطني بلدان أخرى، ما يزيد على مليوني نسمة من سكان القرم.
ولم تعمد موسكو طوال ربع قرن، وطالما ظلت السلطات الأوكرانية محافظة على ما يبدو أنه يشبه التفكير السليم، إلى القيام بأي محاولة لإعادة النظر بنتائج الاتفاقيات التي أنهت وجود الاتحاد السوفييتي، ولا إلى إثارة الجدل حول الحدود التي عينتها هذه الاتفاقيات. ولكن في شباط عام 2014، وفي أعقاب الانقلاب الحكومي المدعوم من عدد من البلدان الغربية، استولت على السلطة في كييف قوى راديكالية متعصبة قومياً، تضع ضمن أولوياتها «الأكرَنة» الشمولية للبلاد، وتهميش الشعوب الأخرى التي تعيش في أوكرانيا، والروس بالدرجة الأولى.
شعب القرم لم يكن يرغب أن يعيش في ظل سلطة مثل هذه الحكومة في البلاد وقرر في استفتاء علني عام، وبوجود مراقبين دوليين، بأغلبية ساحقة من الأصوات (أكثر من 95 بالمئة من المقترعين الذين زادت نسبتهم على 80 بالمئة من العدد المسجل في القوائم) أن يصبح جزءاً من روسيا. واستناداً إلى الإرادة التي عبر عنها شعب القرم السيد الرئيس فلاديمير بوتين وقع اتفاقية حول دخول القرم في كيان روسا الاتحادية.
النواحي القانونية
من الضروري أن نؤكد أن عودة القرم إلى روسيا تقوم على أساس القانون الدولي، وتتطابق معه تطابقاً تاماً. إن إعلان استقلال جمهورية القرم ودخولها ضمن كيان روسيا الاتحادية قد أصبح الشكل الشرعي المطلق لتجسيد حق شعب القرم في تقرير مصيره في ظل الظروف التي وقع فيها انقلاب حكومي مدعوم من الخارج وباستخدام القوة.
وكما هو معروف فإن المبادئ الأساسية التي يقوم عليها القانون الدولي تتمثل في حق شعوب في تقرير مصيرها، وفي سلامة أراضي الدول. ومسألة تناسب بينها مقررة في بيان عام 1970 حول مبادئ القانون الدولي، وفي بيان فيينا الصادر عن المؤتمر العالمي حول حقوق الإنسان الذي عقدته منظمة الأمم المتحدة في عام 1993. إن الجوهر يكمن في أن مبدأ سلامة الأراضي يجب أن يكون مشروطاً بمراعاة التساوي في الحقوق لجميع الشعوب التي تعيش على الأراضي المعنية.
وفي حالة القرم هذه فإن سياسة الانتقاص من حقوق سكان القرم التي مارستها باطراد جميع الإدارات الأوكرانية والمقترنة بعزم الأشخاص، الذين استولوا على السلطة في عام 2014، على أن يمارسوا خطاً ممنهجاً في تطبيق التمييز العنصري تجاه السكان الناطقين باللغة الروسية، قد جعلت من الاستفتاء في القرم حول تقرير المصير شرعياً تماماً من وجهة نظر المواثيق الدولية الأساسية.
القرم اليوم
على الرغم من التركة المعقدة التي خلّفتها «الحقبة الأوكرانية»، والتي تشتمل على المستوى المنخفض لدخل السكان، وعلى الوضع غير المُرضي لأغلبية مرافق البنية التحتية إلخ…، فإن القرم اليوم أحد أكثر الأقاليم الآخذة في التطور ديناميكيةً في روسيا.
ويلاحظ التقدم في جميع القطاعات الأساسية تقريباً في الاقتصاد القرمي، ويجري بثبات نمو مستدام لمداخيل الموازنة الإقليمية، وتتعاظم وتائر البناء السكني، وثمة دلائل على انتعاش الصناعة والزراعة، كما تتوطد مواقع قطاع الاستجمام والسياحة الذي يتسم بأهمية ذات طابع تقليدي.
إن المهمة الأساسية الآن هي إيصال مستوى حياة السكان (الذين يبلغ تعدادهم حسب آخر المعطيات ما يقرب من المليونين) ومستوى التنمية الاقتصادية في القرم إلى منسوب المؤشرات الروسية العامة، وكذلك إيجاد الظروف الملائمة لتأمين نمو اقتصادي مستدام في شبه الجزيرة وتحقيق الانسجام في العلاقات بين القوميات والاستخدام الفعال للإمكانيات الكامنة في مجال السياحة وإنشاء شبكة من طرقات السيارات والمرافئ وتأمين التواصل وسبل النقل مع الجزء القاري من روسيا الاتحادية.
وقد تم تحقيق نجاحات جدية في هذا الاتجاه. ويجري منذ عام 2015 تنفيذ برنامج اتحادي ذي أهداف معينة محسوب للفترة الممتدة حتى عام 2022، عنوانه «التطوير الاجتماعي- الاقتصادي لجمهورية القرم ومدينة سيفاستوبل» بحجم يقرب من 15 مليار دولار. وبفضل هذا البرنامج زادت الأجور الفعلية لسكان القرم العاملين في القطاع الذي تموّله الموازنة، وارتفعت كذلك معاشات المتقاعدين والمعونات في القرم بمقدار يتراوح بين مرتين ومرتين ونصف المرة، واقتربت من المستوى الروسي العام. كما تم بناء عدد من المحطات الكهربائية الحرارية ما أنهى تبعية شبه الجزيرة لأوكرانيا في مجال التزود بالطاقة.
وتنشط في أراضي شبه جزيرة القرم منطقة اقتصادية حرة، تم في إطار نشاطها إبرام أكثر من 250 اتفاقية استثمارية، ويجري على هذا الصعيد تنفيذ أكثر من 200 مشروع يبلغ الحجم العام لرؤوس الأموال الموظفة فيها أكثر من 2.4 مليار دولار أميركي، وتوضع خطط تهدف إلى إيجاد 14 ألف فرصة عمل. وتتركز أضخم التوظيفات المالية في مجالات: الزراعة، والبناء، والصناعة، والمنتجعات، والسياحة، والنقل.
وقد افتتح في مدينة سيمفيروبل (وهي عاصمة جمهورية القرم) مطار دولي جديد، وتم إصلاح مئات الكيلومترات من طرق المواصلات، وازدادت بقدر ملموس حجوم بناء المساكن. ولا شك في أن أحد أهم الإنجازات هو إنشاء جسر القرم بطول 19 كم. وهو يربط بين شبه الجزيرة وروسيا ما أحبط محاولات السلطات الأوكرانية الرامية إلى محاصرة شبه الجزيرة في مجال النقل.
وتعتبر السمة الأساسية للعمليات الاجتماعية في القرم هي المساندة الثابتة والجماهيرية من السكان للخط السياسي الذي تنتهجه السلطات الاتحادية، وقد اتضح هذا الأمر من خلال نتائج انتخابات رئيس روسيا الاتحادية في 18 آذار عام 2018، وذلك بدليل النسبة العالية للمقترعين (التي بلغت 71.43 بالمئة من أصل عدد الأشخاص المسجلين في القوائم الانتخابية)، والفوز المؤزّر لفلاديمير بوتين الذي حاز على نسبة 92.2 بالمئة من أصوات المقترعين.
وقد ساد في القرم جو الوفاق بين القوميات الذي يتسم بمراعاة مصالح جميع الأقليات القومية، وتؤمّن الدولة التقيد غير المشروط بالالتزامات الدولية في مجال حقوق الإنسان. إن سكان القرم متعددي القوميات يمارسون حقوقهم بكامل أبعادها في مجال حرية الكلمة والاجتماع والتعلم باللغة الأم، بما في ذلك اللغات التترية- القرمية والأوكرانية اللغتان تتمتعان بوضع لغتين معتمدتين في الدولة.
إن أكبر الأقليات القومية في القرم هي أقلية التتر تمثلهم أكثر من 30 منظمة غير ربحية تتمتع بالمصداقية، وتضم ما يقرب من 30 ألف نسمة. وقد تشكل في شباط عام 2018 مجلساً تنسيقياً للطائفة، وهو ينشط بتعاون وثيق مع السلطات في القرم. ويمثل تتر القرم في جميع أجهزة سلطة الدولة في شبه الجزيرة، بما في ذلك الأجهزة الأمنية بما يتناسب مع عددهم ضمن سكان المكونات الاتحادي (القرم).
وبصرف النظر عن النجاحات التي تم إحرازها فإننا ندرك أنه ما زال علينا أن نتغلب على عدد من الصعوبات، وأقصد بالدرجة الأولى الضغوط الناجمة عن العقوبات. وبهذا المعنى ثمة أشياء مشتركة ليست بالقليلة تجمع بين القرم وسورية، ولذلك تحديداً نتصور أن من المهم جداً الآن زيادة التعاون بين سورية والقرم وتبادل الخبرات في مجال التقليل إلى الحد الأدنى من آثار التقييدات الأحادية الجنب وغير الشرعية.
سورية والقرم
لا بد من أن نبدأ هذا الفصل بالتعبير عن الامتنان للقيادة في سورية لموقفها المبدئي والثابت في مجال تطوير العلاقات مع القرم بصفته جزءاً من روسيا الاتحادية وقد أصبحنا نلاحظ في السنوات الأخيرة بفضل هذا النهج الذي تمارسه القيادة في الجمهورية العربية السورية تطويراً فعالاً في العلاقات بين الإقليم الروسي وسورية عموماً وبينه وبين المحافظات السورية خصوصاً.
وسأعدد أهم وجوه هذا التطور: ففي تشرين الثاني من عام ٢٠١٧ شارك وفد سوري عالي المستوى في الاجتماع التأسيسي لرابطة أصدقاء القرم. وفي نيسان العام الماضي زار وفد سوري برئاسة وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية في الجمهورية العربية السورية د. حسام الخليل المنتدى الاقتصادي الدولي الرابع في يالطا. وقد أقيمت خلال ذلك حفلة توءمة بين يالطا واللاذقية.
وفي إطار الزيارات المقابلة قام وفد من القرم في أيلول العام الماضي برئاسة نائب رئيس مجلس وزراء القرم السيد جيورجي مورادوف بالمشاركة في معرض دمشق الدولي في أثناء الاحتفال بدورته الستين. وفي ١٥-١٦ من تشرين الأول في العام الماضي وفي أثناء وجود وفد جمهورية القرم برئاسة رئيس الجمهورية السيد سيرغي اكسيونوف في سورية تم الاتفاق على افتتاح دار التجارة القرمية- السورية في القرم وعن إنشاء شركة ملاحية مشتركة. ونحن الآن نعمل بفعالية لتنفيذ هذا الاتفاق.
وقد زار محافظ سيفاستوبل سورية في كانون الثاني من العام الجاري وأبرم معاهدة حول التعاون مع محافظة طرطوس السورية.
ولا شك لدي في أن كل هذا ليس سوى بداية لتعاون جدي متعدد الأشكال سوف يتم بيننا لمصلحة بلدينا.