اقتصاد

«قهوة تركي» في السبع بحرات!

| علي محمود هاشم

ليست إدلب مجرد ميناء جاف للسلع المتسللة داخلاً نحو مدننا الأخرى.. فهذه المحافظة التي حوّلها نزوع المنزلقين أسفل الرغبات التركية، إلى منصة وظيفية لاستهداف الاقتصاد الوطني عبر التهريب داخلا، تدّخر نصفاً آخر للحقيقة، يجسده تنامي دورها في عمليات التهريب خارجاً!
بطبيعة الحال، يمكن تخيل السلع التي يقلّها التهريب داخلاً لبلد يعاني إغلاقاً شبه تام لحدوده التجارية، مشفوعاً بتحوط ذاتي من الاستيراد.. فماذا عن السلع القابلة للتهريب خارجاً؟
خلال الحرب، لطالما سلكت بعض سلعنا المحلية المتاحة طرق التهريب خارجاً إثر منعها من التدفق التلقائي عبر أقنية الدفع النظامية التي تغطي التجارة العابرة للحدود.
حتى هذه النقطة، بقي الأمر مسكوتاً عنه في سياق المواجهة مع النيات الخارجية المعلنة لخنق الإنتاج الوطني بدمائه الفائضة والنازفة، لكن، وما أن يشمل هذا الطراز من التهريب سلعاً أخرى مستوردة، حتى تتخذ المخاوف منه منعطفاً حاداً ليس على الصعيد المالي فحسب، وإنما لدوره في إجهاض الجهود الاستثنائية المبذولة لاستيرادها، وفي تقليص العرض ضمن الأسواق المحلية.
لأسباب موضوعية، قد لا يكون من السهل الوقوف على كميات السلع المستوردة التي يتم تهريبها خارجاً، لكن ذلك لا يقف عائقاً أمام تفحص سيناريوهات استدلالية للممكن وغير الممكن في هذا الجانب.
تفيد البيانات الرسمية بتضخم كمّي لافت في بعض المستوردات، ما يثير شكوكاً موازية حيال أسواقها الحقيقية، وعلى سبيل المثال، هنالك من أومأ في سنوات سابقة إلى الشاي والقهوة وسلع أخرى كان لا يمكن الصمت عن تهريبها خارجاً آنذاك، أما اليوم، فقد بات الأمر مختلفاً في ضوء تراجع سعر الليرة أمام الدولار مؤخراً، وما رسخه من تبدلات موازية في فعالية برنامج تمويل المستوردات التي أضحت تتمتع بدعم «شَنْدي» بنحو 25% من أسعارها العالمية!.
استنادا لضخامة مستورداتها النظامية، يغمز البعض إلى «أرض الأسعار الواطئة» التي تجتذب مشترياتنا من هذه السلع الممولة نحو الأسواق التركية واللبنانية والأردنية، بدعم ليس فقط مما رسخته التبدلات النقدية، بل أيضاً ما توفره الإعفاءات الجمركية التي تتعاطى معها كمواد أولية!
يشبه «الغامزون» الأمر بـ«عزومة إقليمية» على فناجين القهوة التركية، يوزعها نُدلٌ بليدون على جيراننا الجالسين إلى طاولات موزعة قرب الفسحة الأمامية لمصرفنا المركزي في السبع بحرات، وعلى حسابه!
عزائم القهوة والشاي على وجه الخصوص، قد تشكل مدخلاً منطقياً مناسباً لفهم الألغاز التي تكتنف حقيقة مستورداتنا النظامية الضخمة من كليهما، في مقابل كميات أضخم تصلنا تهريباً عبر إدلب.. ببساطة: يشرب جيراننا اليوم قهوتنا المستوردة الجيدة على حساب مصرفنا المركزي.. ويلقون لنا بنفاياتهم منها، على حسابنا!
المشهد آنفا يجسد الطور الصاعد من المنشار.. ثمة حركة هابطة «أدقُّ رقبةً».. فعلى مدى سنوات، كثيراً ما ضُبطت شحنات المشتقات النفطية في طريقها إلى إدلب، جرى هذا التهريب «خارجاً» في مناطق أخرى كالأرياف المفتوحة على الأراضي اللبنانية والأردنية!
وفق نشرة يوم 11 آذار الجاري، تعد سورية راهناً من الدول الأرخص في أسعار المشتقات النفطية، إذ يباع ليتر البنزين في تركيا بما يعادل 675 ليرة سورية، وفي لبنان 405 ليرات، والأردن بـ713 ليرة.
المازوت، ووفق النشرة ذاتها، يباع ليتره بـ653 ليرة سورية في تركيا، و459 ليرة في الأردن، ونحو 324 ليرة بلبنان.
ولأن التعريف الأقصر للتهريب في مكان ما يرتبط بالهامش السعري مع جواره، فلا حاجة لاحتساب عائدية الشغف بتهريب مشتقاتنا النفطية خارجاً، هذه المرّة، يبدو مصرفنا المركزي كمحطة محروقات عملاقة تمتد «برابيشها» نحو المناطق الحدودية في دول الجوار!
وفق إعلان له أمس، ألمح مصرفنا المركزي إلى طلاق قريب من «المساكنة» التي تعانق إستراتيجيته النقدية على فراشها، مصالح التجار والمهربين المتحفزين لترحيل كل شيء: بدءاً بالسلع الأساسية والثروة الحيوانية، ولا انتهاء بالخيوط والأقمشة والأعلاف.
وفق أي صيغة قد ينتهجها المركزي للتخلص من الثمرات الفاسدة لتلك «المساكنة»، والأرجح أن يميل لتثبيت الليرة على حالها الراهن، فسيتاح له التخفف من الظنون السيئة التي بدأت تلفح صورته الجديدة، مبكراً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن