قضايا وآراء

عشب البيت الأبيض

| عبد المنعم علي عيسى

عشية انطلاق مؤتمر وارسو لاحتواء إيران منتصف شهر شباط الماضي، أعلن غاريد كوشنر عن تأجيل الإعلان عن «صفقة القرن» المصطلح الذي يطلق عادة للتعبير عن التسوية النهائية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ما تسرب عن تلك الصفقة قليل على الرغم من رواج الحديث عنها منذ عامين، إلا أن الأناء ينضح بما فيه، وما رشح يشير إلى أنها سقوط إلى قاع هو أعمق بكثير من قاع أوسلو الذي أعطى لإسرائيل حق قيام دولتها على 78 بالمئة من أراضي فلسطين التاريخية.
ما كان لطروحات صفقة القرن أن تخرج إلى العلن، أو حتى يمكن التفكير بها، لولا عاملان اثنان أولهما معروف وهو حال التردي العربي، وثانيهما هو تغير النظرة العربية التي تخص التساكن مع دولة إسرائيل.
التغير في النظرة هنا ليس المقصود به على مستوى الأنظمة فهذا حصل سرا وعلانية منذ وقت ليس بالقصير، وإنما على مستوى المجتمعات بغالبية تياراتها وقواها الفاعلة الأمر الذي يمكن تلمسه في أدبياتها، بل في مصطلحاتها التي تستخدمها عندما تأتي على ذكر ذلك الصراع.
عندما ألقى الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبه خطابه الشهير في مدينة أريحا الفلسطينية العام 1965 داعياً العرب إلى إقامة حوار مع دولة الاحتلال على أساس قرار التقسيم 191 للعام 1947 وعلى مبدأ «خذ وطالب» وجد نفسه في مواجهة موجة مد عارمة من الاستنكار وصل إلى حدود التخوين، في حين وجدت غالبية الأنظمة نفسها مضطرة لركب موجة جماهيرها الغاضبة وان لم تكن تشاركها تلك النظرة، كانت نظرة الشارع العربي آنذاك استئصاليه وهي لا تقبل بأي حال من الأحوال مد جسور الحوار مع تل أبيب أو التفاوض معها.
في عامي 1967-1991 حدثت هزيمتان ماحقتان في المنطقة كانت من نتيجتهما وقوع هذي الأخيرة بشكل جزئي تحت الهيمنة العسكرية المباشرة للغرب، الأولى أدت إلى القبول بالقرار 242 والثانية كانت مدخلاً نحو مؤتمر مدريد 1991، إلا أن تأثيرهما الأبلغ كان ينبع من النظرة التحولية لشعوب المنطقة التي باتت أقرب إلى القبول بمعطيات الوضع الراهن تحت مسمى الواقعية السياسية، وفي رصد ذلك. يمكن القول أن تلك النظرة لم تكن تشاركية أو متناغمة فيما بين الأنظمة العربية وبين مجتمعاتها في الفترة الواقعة ما بين النكبة 1948 وبين توقيع اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل 1979، بل يصح توصيفها أن كلاً من الطرفين كان يغرد في وادٍ بعيد عن الآخر، إلا أن ذلك لم يعد قائماً منذ أن أعلنت العاصمة النرويجية في 30 آب 1993 عن أن وفداً يمثل منظمة التحرير الفلسطينية ونظيراً له إسرائيلياً قد توصلا إلى مسودة اتفاق سوف يتم توقيعها قريباً.
كان منظر الراحل ياسر عرفات متدافعاً مع رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين على عشب البيت الأبيض يوم 13 أيلول 1993 قد انغرس عميقاً في الذات الجماعية العربية، والمشهد كان بالغ الدلالة لجهة هزيمة إرادة الفعل العسكري الذي كان يمثله ارتداء عرفات لبذته العسكرية لصالح فعل السياسة الواقعية التي بدأت في ذلك اليوم ولم يكن أحد يعرف أين ستنتهي، إلا أن تباشيرها اليوم توحي بسياقات لم يكن يفكر فيها ميكيافيللي نفسه.
مع تهتك عوامل القوة العربية لم يعد مطلوباً للغرب الان سلام الأنظمة الذي ثبت أنه عاجز عن أن يخدم « فكرة» إسرائيل، وما بات مطلوباً هو سلام المجتمعات الذي إن تم أضحت الفكرة في سياقاتها المرجوة.
على مشارف «الربيع العربي» أضحت القوى والتيارات العربية أكثر قبولاً، ولنقل أقل رفضاً، للعيش مع دولة الاحتلال، وبمعنى آخر لم يعد مشروع بورقيبه يلقى الاستنكار الذي لقيه في السابق، بل إن ثمة مراجعات كارثيه كانت قد حدثت عبر عنها تصريح للرئيس المصري السابق حسني مبارك في أعقاب أوسلو قال فيه: «إن مصر خسرت في حروبها مع إسرائيل 100 مليار دولار فماذا جنت»؟! ولعلنا نضيف إلى ما قاله مبارك أن مصر خسرت مئات الآلاف من الشهداء أيضاً وهو ثمن يفوق الثمن الذي ذكره بأضعاف، لكن ماذا لو فكر الاتحاد السوفييتي وبريطانيا وفرنسا بنفس الطريقة إبان الهجوم الألماني على أراضي ذلك الثالوث البادئ صيف العام 1939؟ وما هو الشكل الذي ستكون أوروبا، وكذا العالم، عليه فيما لو فكروا بطريقة مبارك؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن