ثقافة وفن

حلب والحب

| إسماعيل مروة

في حضن قلعتها العظيمة، هناك عند السفح يقبع سوقها، وينتشر عبيرها من ترابتها الحلبية التي تستخدمها الحسان للاستحمام بها، لتبقى رائحة الترابة تفوح أياماً من الأجساد عطراً، أين منه عطور الكون، تلتهم أعين السياح هذه الترابة، ويتردد قسم من دون إفصاح أن يتم استلاب هذه الميزة العطرة.. ومن ترابتها إلى غارها وزعترها طريق ممتد ليصل إلى الأموي الكبير، وإلى السريان، وإلى ملجأ الأرمن حين دهمهم الترك، وكأنه قد كتب على السوري مهما كان أن يبقى مرتحلاً أبداً، فما إن يتعشق مكاناً حتى يدلف إلى مكان آخر، وكأن الكون كله يبحث عنه، عن السوري وجهده وعطره، وكل ما يحتوي من كنوز يصعب أن تكون لدى سواه، فهو الذي يتفنن عشقاً، ويتفنن حباً وألقاً وجمالاً.
يرقب سيف الدولة من قاعة العرش، من شرفته، من كل مكان في القلعة المنيفة، ويسمح للماء المنسرب عظمة أن يخرج شيئاً فشيئاً ليصنع ترابة من عطر ومن مجد وكبرياء.
يصدح المتنبي: حلب قصدنا وأنت السبيل
ويترنح سيف الدولة عشقاً وغروراً، وهو يرى حلبه هي المقصد والمعهد، ويجمع حوله أدباءه وشعراءه، فذا الصنوبري، والخالديان والفارابي، ويغيب الشاعر الفارس أبو فراس، فهو مأسور عند الروم يناجي معللته:
معللتي بالوصل والموت دونه
إذا متّ ظمآناً فلا نزل القطر
ويحادث أمه العليلة، ويستمع إلى بوح حمامة تقف على نافذة الأسير، طلب ذات لحظة أن يحتجب المطر إذا مات ظمآن، فتذكر أمه التي تنتظر، وهيهات أن تأتيها رسالة من هذا السجن البعيد فيعود ليقول:
أيام الأسير سقاك غيث
الغيث له وللمكان الذي تعيش فيه الأم، للناس جميعاً.. هناك يقبع الشاعر الفارس الأسير، وابن عمه لا يفتديه لأطماعه، السلطة تحول دون أن يفتدي سيف الدولة فارسه، والفارس يريد أن يكون حاكماً، وما بين طمع وخوف قبع الشاعر الأسير في القبو المظلم يبحث عن أمه، وعمن يحب، ويردد آهاته للحمامة التي حطت على نافذته!
يتنشق سيف الدولة التراب، ويغيب في نشوة الحب والعطر، يمسح الماء الذي انساب من طهر القداسة، وينشغل عن فارسه، لأن أبا الطيب وقف منشداً:
ليس إلاك يا علي همام
سيفه دون عرضه مسلول
وسوى الروم خلف ظهرك روم
فعلى أي جانبيك تميل
كان المتنبي يدرك قيمة السيف المسلول، وأهمية سيف الدولة حامياً للثغر والثغور أمام الروم، ماذا يحتاج سيف الدولة؟ ماذا يريد من أبي فراس ما دام المتنبي يغطي سماء حلب وهو ينشد من قلعتها؟
لم يكن في الحسبان أن يغادر المتبني متألماً! يردد بحرقة:
كفى بك داء أن ترى الموت شافياً
وحسب المنايا أن يكن أمانيا
تمنيتها لما تمنيت أن ترى
صديقاً فأعيا أو عدواً مداجياً
حببتك قلبي قبل حبك من نأى
وقد كان غداراً فكن أنت وافياً
فإن دموع العين غدر بربها
إذا كن إثر الغادرين جواريا
قال لسيف الدولة وما سمع، أصعب ما في الحياة أن يتمنى المرء الموت، وأي موت؟! الموت الشفاء، حين يعجز المرء عن إيجاد العدو المجامل بعد أن فقد أي نوع من أنواع الصداقة وما فيها من حب ومنح.. وها هو المتنبي يترك وصية لنفسه، بل لسيف الدولة، بألا يكون وراء الغادر باكياً لأن الدمع إذا نزل من أجل الغادر يكون غدره بصاحبه وله!
غادر المتنبي… وغادر سيف الدولة
خمل ذكر سيف الدولة ووقائعه بعد أن صار المتنبي عند كافور ومن ثم في بلاد فارس، أراد المتنبي لطموحاته السلطوية أن تداس بالأقدام فاختار قدمي كافور الكبيرتين، ومن ثم اختار غربته بين الأعجام.
ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان
ما أعجز سليمان عن فهمه سيعجز المتنبي، وغادر المتنبي في رحلته الأخيرة مات هناك
ومعه فقد الشعر كبرياءه.
وخولة سيف الدولة تسأل عن عاشقها الذي تغزل بها في رحيلها.
رحل سيف الدولة، ورحل أبو فراس الفارس، وبقيت فروسية دولة الأقلام والفن والموسيقا والأدب، بقيت قلعة العرش تشهد إبداع الفارابي وعزفه ووتره المكتشف، وبقي الصنوبري يحاول اللحاق بالمتنبي بعد موته.. لكن هيهات أن يلحق المرء بالكبرياء ولو بعد الرحيل!
واستدارت العظمة في حلب لتقول للعالم: لست سيف الدولة وحده، ولست مدنية الشاعر الواحد، فجاءها المخاض كل يوم لتنجب عالماً وشاعراً، ولتشهد العالم أن الفارابي وموسيقاه انزرعا في الأرض ليمنح أبناؤها نغماً وسحراً وموسيقا وصوتاً، فمن محمد خيري إلى البطش إلى الدايخ وصباح فخري وشادي جميل والنجار وسرميني، وكل وتر مشدود على الترابة الحلبية الخالدة، يتحدثون عن حلب والنغم، ولا يعلمون أن وتر الفارابي ما زال مشدوداً على حجارة قلعتها، وإن جاء إلى الشام وسكن شاغورها ومات فيها، إلا أن نغمه بقي في حلب وتأليفه كان للشام.
يطرب القدّ ويميس في حلب
على مئذنة يحلو النغم والأذان
وفي كنيسة يحلو الترتيل
ومن جامع وكنيسة كان النغم الأكثر جمالاً، النغم المرسوم بدقة متناهية، لأنه نغم عبادة، ولأنه نغم يصل الصوفي الحلبي بعالم آخر لا يدركه إلا العاشقون..!
في جنانها الفسيحة… في حدائقها المنتشرة
في معاهدها… في جامعاتها
يتنقل الأسعد، ذلك الوجه الذي أخذ نبل الأموي، وشمع الكنائس، ووفاء خولة، وكبرياء المتنبي، وفروسية سيف الدولة، لتبقى حلب إشارة المجد وشارته، وخاصة عندما نرتل مع ميادة بسيليس وسمير كويفاتي النغم المصفّى الذي يحمل عبق الشموع!
حلب قصدنا وأنت السبيل… لن تكون حلب إلا مقصداً للحب والنغم والجمال، وعبقاً لتراب حمل اسمها وحده وها هي حلب من قبل ومن بعد سيف الدولة ترسل للعالم نغمها وقدودها وعلمها.
فمن مها الجابري إلى سمير حلمي رحلة نغم جميل
ومن الدايخ إلى فخري تواصل روح على مئذنة صادحة
ومن شادي إلى ميادة تراتيل وطن
وتكتمل دائرة العلم والحب والسماحة مع عمامة جادت بها حلب لتنشر سماحة وحباً على امتداد سورية، إفتاؤها الحب، وحياتها قنديل من عشق أبدي للإنسان وإنسانيته.
لن يقدر الدمار على حلب
لن يغطي الدمار على قلعتها
ولن يطفح الدم على شوارعها
وتخرج بعباءتها وعمامتها ونغمها لتقول:
أنا حلب أم الحب ولست أم الطرب وحده
ويتردد الأذان مع الأجراس من سور قلعتها إن تعذر الأمر
بنداء على الحب والإنسان.
كلما رحبت بنا الروض قلنا: حلب قصدنا وأنت السبيل
كلنا راحلون وتبقى حلب الحب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن