ثقافة وفن

تلخيص النصوص في الآداب وترجماتها

| أ. د. راتب سكر

-1-
ترتبط مناهج تلخيص النصوص ارتباطاً جوهرياً بفعلي الكتابة والأدب، فمنذ انطلاق مسيرة الكتابة في المجتمع البشري التي يرجعها الدارسون إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، راح الكتاب يلخصون الظواهر التي يريدون التعبير عنها وكان فعل الكتابة ذا منهج تلخيصي بامتياز، فانتقل البشر من رسم صورة «بقرة» (على سبيل المثال) إلى كتابة كلمة «بقرة» أو حرف «ب» للتعبير عن هذا الحيوان، وسرعان ما ترسخ هذا المنهج في التعبير عن الظواهر الاجتماعية والنفسية والتاريخية والثقافية في الكتابة، ومن الراجح أن العودة إلى المؤلفات التاريخية والأدبية القديمة والحديثة تقدم لنا أمثلة باهرة على رسوخ منهج التلخيص في الكتابة والتعبير عن الظواهر المختلفة.

-2-
ضرورات تلخيص وقائع الحياة وتلخيص النصوص
تعد ظاهرة تلخيص النصوص من الظواهر المنهجية الراسخة في كتابة المؤلفات الأدبية والفكرية والتاريخية، يستند رسوخها وانتشارها المتنامي إلى ضرورات متنوعة النشأة والغايات، منها ضرورات تقدم دراستها بالتوصيف والتحليل والتقويم فوائد معرفية تثري تنوع مناهج الكتابة والترجمة في الحياة الثقافية.
1- صعوبة نقل وقائع الحياة البشرية، وتراكم خبراتها المعرفية والعلمية والجمالية الأدبية والفنية، من دون نصوص تنعكس في مرائيها بتلخيص مناسب.
لقد أدرك ناقلو وقائع الحياة ومستلهمو مكوناتها في نصوص كتاباتهم، ضرورة التلخيص والاختصار منهجاً رئيساً في نقلهم واستلهامهم، يمكن توصيفه وتحليله وتقويمه، في مؤلفين مهمين:
أ- مؤلف «الإلياذة» لهوميروس (نحو 850 ق. م):
أراد هوميروس استلهام وقائع حرب تاريخية ذات طوابع أسطورية بين اليونان وطروادة أو إليون، استمرت عشر سنوات، و«يحدد بعض المؤرخين تاريخ نشوب حرب طروادة بعام (1183) قبل الميلاد، أي قبل هوميروس بنحو قرنين من الزمان» .. لكنه اقتصر في مؤلفه على عكس وقائع جوهرية من أشهر محدودة في السنة العاشرة الأخيرة في تاريخ تلك الحرب، مكتفيا بالتلميح والإشارات السريعة إلى ما دون ذلك. دوافعه في منهج عمله تنطلق من حرصه وتركيزه على عناصر تلبي ضرورات عمله الملحمي فنيا وفكريا ووجدانيا.
توسع هوميروس توسعا نسبياً في كتابته الأدبية عن الأحداث التي جرت في أشهر محددة من السنة العاشرة والأخيرة من تاريخ الحرب، ولو قارن المرء بين ما كتبه «هوميروس» عن هذه الأشهر القليلة المحددة مع الوقائع التاريخية التي تشكل مصدرها، لوجد أن كتابته ظلت ضمن مناهج تلخيص الوقائع، لم تتجاوزها إلى محاكاة تفصيلية توسيعية لها، فمنهج التلخيص وما يتصل به من «اختيار» و«حذف» هو المعتمد في ملحمة «هوميروس».
ب- مؤلف «المختصر في أخبار البشر» لأبي الفداء إسماعيل بن علي الأيوبي (672- 732ه)، (1273- 1331م).
جاء هذا المؤلف في أربعة أجزاء، عرض فيه أبو الفداء تاريخ العالم منذ بدء الخليقة حتى زمنه في مطالع القرن الثامن الهجري، الرابع عشر الميلادي، في نحو ثمانمئة صفحة، وقد فعل حسنا عندما اختار لعنوان مؤلفه اسم «المختصر» الوثيق الصلة بفعل «التلخيص»، معبرا عن وعيه لمنهج عمله في صناعة مؤلفه.
هذا الوعي لدى أبي الفداء مؤسس على إدراكه ضرورة التلخيص في نقل وقائع الحياة البشرية، وتراكم خبراتها المعرفية والعلمية والجمالية الأدبية والفنية، في نصوص تنعكس في مرائيها بتلخيص مناسب.
نجد هذا الوعي يتجلى لدى معظم كتاب التاريخ بمناهج متنوعة، مع المحافظة على فعل التلخيص منطلقا أساسا، ومن الأمثلة المعبرة في هذا المضمار مؤلَّف الطبري (ت310ه- 923م) «تاريخ الأمم والملوك» الذي حدد طوابع جوهرية لمنهج تلخيصه التاريخي بربطه بين المفردات الثلاث في عنوانه: «تاريخ الأمم والملوك».
2- ضرورة تأكيد عناصر النصوص الجوهرية، في عمليات تلخيص تحقق تخليص تلك النصوص من العناصر الهامشية، تكثيفا أو حذفا مناسبا، تأكيداً مفيداً في عمليات التفهم الأمثل لما تعكسه عناصرها الجوهرية، من وقائع الحياة البشرية، وتراكم خبراتها المعرفية والعلمية والجمالية الأدبية والفنية.
لقد عبّر كتاب كثيرون عن وعيهم العميق لهذه الضرورة، فجعل مثقف بارز هو رفاعة رافع الطهطاوي (1216-1290هـ)، (1801-1873م)، مفردتين دالتين على ذينك التخليص والتلخيص في عنوان كتابه المهم: «تخليص الإبريز في تلخيص باريز».
لقد أراد الطهطاوي كتابة نصوص تلخص وقائع الحياة الباريسية الفرنسية، وتراكم خبراتها المعرفية والعلمية والجمالية الأدبية والفنية، فاستخدم مفهوم «تخليص الإبريز»، رمزا لتلخيص العناصر الجوهرية في مكونات تلك الوقائع، مؤسسا على التشابه بين تخليص الذهب من العناصر الهامشية التي تعلق به في فلزاته، وتلخيص وقائع الحياة بتخلص جواهرها مما يعلق بها من عناصر هامشية، تخليصا يكاد يكون صراطا منهجيا لعمليات تلخيص النصوص، في مقايساتها النسبية العملية غير النهائية بين الطوابع الجوهرية والهامشية لعناصر الوجود والحياة ومكوناتهما.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن