قضايا وآراء

الأردوغانية: إيذان بالرحيل

| عبد المنعم علي عيسى

غيرت تركيا خلال قرن من الزمن لبوسها لأربع مرات كانت غير متكافئة في طول مدة إقامتها، فمع انتهاء الحرب العالمية الأولى سادت الأتاتوركية التي قامت على إنهاء عصر الخلافة الإسلامية والالتحاق بالغرب كردة فعل مباشرة لهزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، ثم سادت الطورانية كوسيلة للتمدد وملء الفراغ في الجمهوريات الإسلامية المنفصلة عن الاتحاد السوفييتي عشية تفككه عام 1991، تلتها النزعة الإسلامية مع بروز دور نجم الدين أربكان أواخر الألفية المنصرمة عبر حزب الرفاة الإسلامي الذي استولد حزب العدالة والتنمية الحاكم الآن من رحمه، على حين شهد هذا الأخير ولادة الأردوغانية كوعاء جامع ما بين النزعتين الإسلامية والعثمانية.
قامت مشروعية حكم العدالة والتنمية على بحبوحة اقتصاديه استطاعت من خلالها اختراق شرائح واسعة خارج الحزام الإسلامي، فيما جرى التلويح لجذب العلمانيين عبر المحاولات الرامية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، في الوقت الذي لم تبد فيه أنقرة استعداداً كافياً لتلبية متطلبات ذلك الانضمام الذي لم يكن أردوغان يريده في قرارة نفسه على الأرجح، كان مشروع أردوغان يقوم على الأيديولوجيا الإسلامية لاختراق دول الجوار، وما جرى هو أنه استطاع إقناع الأميركيين أن المنطقة تعيش إرهاصات العام 1516 نفسها وهي تعيش حالة خواء أيديولوجي يمكن ملؤها عبر أفكار الإسلام التركي المعتدل، ومن شأن، ولا زلنا في إقناع أردوغان للأميركيين، الوصول إلى حال كهذا أن يؤدي إلى وضع ضامن للمصالح الأميركية في المنطقة وبطريقة أقل تكلفة من مثيلتها الإسرائيلية.
حقق المشروع نجاحات ملموسة في تونس ومصر وبدرجة أقل في سورية والكويت والمغرب قبيل أن ينقلب السحر على الساحر في غضون أقل من عامين، كانت العوامل التي أدت إلى الانهيار عديدة إلا أن الأهم منها كان هو الذاتي الناجم عن لفظ المجتمعات العربية لثقافة الأخونة الممزوجة بصبغة العثمنة هذه المرة، في الوقت الذي لم تكن فيه أنفاس عبد الحميد الزهراوي وشكري العسلي قد برحت ساحة المرجة الدمشقية بعد، ولا أنفاس عبد الغني العريسي وأحمد طبارة قد برحت هي الأخرى ساحة البرج ببيروت.
كان لانهيارات المشروع في المحيط تداعيات كبرى في الداخل التركي، وقد تمظهرت في تباين للرؤى والتحليلات بدا أن لا تقاطعات فيه، ولذا كان لا بد من افتراقات مع رفاق الطريق بالجملة، والحملة ستطول الأغلبية ممن كانوا في الصف الأول بدءاً من عبد اللـه غل مروراً بأحمد داوود أوغلو وصولاً إلى علي باباجان ومحمد شيمشك، لم يكن الفراق على خلاف حول الهدف وإنما كان خلافاً على الحركة وطريقة الوصول، ومع اكتمال مشهد الإقصاء أضحت التوازنات التي تقوم عليها السلطة هشة قبيل أن يتدخل القدر، أو ربما كان ذلك بفعل فاعل، صيف العام 2016 الذي شهد انقلاباً فاشلاً كان إنقاذياً.
تمكن أردوغان ما بعد هذا الحدث الأخير من أن يكرس نفسه رئيساً أوحد مطلق الصلاحيات، وهو لم يعد بحاجه إلى دستور لكي يحكم بل ولا إلى أجهزة حكم يسوس البلاد من خلالها، كان كل ما يحتاجه هو مساعدين فقط يفهمون ما يريده بالإشارة، وفي غضون الأعوام الثلاثة الأخيرة التي أعقبت الانقلاب كان هناك فعل تكريس طاغ للقبض على السلطة، الأمر الذي أرسى شعوراً بالقلق لدى شرائح واسعة فاعلة في النسيج التركي وهو ناجم عن فقدانها الإحساس بوجود ضوابط حقيقية للدولة العميقة، فالمآلات التي تسير إليها الأمور تدفع بآليات الحكم نحو قوالب معلبة تظهر للرائي على أنها متماسكة، إلا أن المظهر خادع وهو ينم في حقيقته عن بنى هي غاية في الهشاشة ولن يطول الوقت ليتكشف قشرها ويبان اللب.
تقول التقارير إن الاقتصاد التركي اليوم يعيش حالاً من الانكماش غير مسبوقة منذ عشر سنين، وذاك بالتأكيد انعكاس مباشر للقبضة الأحادية المفرطة للسلطة مما يمكن تلمسه في الهبوط الحاد الذي شهدته الليرة التركية في أعقاب تصريحات أردوغان الأخيرة التي علق من خلالها على تغريدات ترامب حول الجولان.
حالة الانكماش الاقتصادي تهدد بسحب مشروعية البقاء، وهو ما يدركه أردوغان جيداً، الأمر الذي يفسر اندفاعه نحو الهروب الدائم إلى الأمام عبر الأيديولوجيا بل والانزلاق نحو التطرف فيها، على نحو ما شهدناه يفعل في التاسع من آذار الجاري عندما ألقى في مدينة سعود شرقي تركيا قصيدة للشاعر ضياء غوقلب كانت قد أدت إلى سجنه في العام 1999، تقول القصيدة: «المآذن رماحنا، وقببنا خوذاتنا، والمساجد ثكناتنا، والمؤمنون جنودنا» ثم سيذهب إلى مدى أبعد من ذلك في تصريحاته التي أعقبت جريمة تارانت في نيوزيلندا ليعلن أن «مساجدنا لن تهاجم كما حصل في نيوزيلندا» قبل أن يهدد الأستراليين الذين سيكونون معادين للإسلام بأنهم سيلقون مصير أسلافهم الذين قتلتهم القوات العثمانية في معركة غاليبولي أثناء الحرب العالمية الأولى.
هذا الهروب إلى الأمام يشير إلى واقع مأزوم، وعندما تفرض متطلبات البقاء أثماناً تفوق قدرات ركائز المسيرة عندها يبدأ الولوج إلى المستنقع.
قبيل أن يموت أي كائن ومن أي نوع كان، بما فيها الكيانات السياسية، تظهر علامات دالة على موته، والتطرف الأيديولوجي، أياً يكن نوعه يسارياً كان أم يمينياً، كان يمثل على الدوام مؤشراً على انحسار موجة التيارات التي ينتمي إليها، ومثلما كانت ظاهرة «بول بوت» في كمبوديا (1975-1979) نذيراً لانهيارات محتمله للفكر اليساري والاشتراكي، ومثلما كان بروز ظاهرة داعش (2013-2019) إيذاناً بغروب شمس الإسلام السياسي، فإن تطرف أردوغان الدال على واقع مأزوم هو إيذان بغروب شمس التيار الذي حكم تركيا سبعة عشر عاماً.
قريباً ستكون تركيا على موعد مع لبوس خامس لها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن