قضايا وآراء

صحفي «إسرائيلي» على مائدة أحفاد «آبو»: وطنٌ مزعوم.. حيث ينهزمون

| فرنسا ـ فراس عزيز ديب

غالباً ما يحمل شهر آذار البشائر الأولى لقدوم الربيع وتفتّح الطبيعة للانعتاق من برد الشتاء، لكن يبدو ذلك في الكتب والروايات لا أكثر إذ إنّ شهر آذار في هذا الشرق البائس بات عنواناً لكل ما لكلمة خريفٍ من معنى، وصولاً لتفتّح الحقائق عساها تقنع من لا يزال في قلبهم شكٌّ، فمن ربيع الدم العربي الذي ضرب سورية، وصولاً للّقاء الذي أجرته في آذار من العام الماضي منبر المعارضة السورية الأول قناة «أورينت» مع السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة داني دانون وأخيراً وليس آخراً استضافة ميليشيا «قوات سورية الديمقراطية – قسد» المدعومة أميركياً للصحفي الإسرائيلي مواف فرداي الذي قام بالتجول في العديد من المناطق التي تسيطر عليها تلك الميليشيا ليعدّ تقريراً إخبارياً للقناة الصهيونية التي يعمل بها.
لكن في المقابل قد يبدو للبعض أنّ هناك نوعاً من التضخيم للحدث، وبمعنى آخر: تقول القاعدة الفقهية: «إنه بعد الكفر ليس هناك إثم»، وهل هناك من كفرٍ أسوأ من قيام تلك الميليشيات أساساً بالتحالف علناً مع الأميركيين، والسماح لهم بإقامة قواعد عسكريةٍ بعد أن غدروا بمن استضاف أجدادهم الهاربين من المذابح التركية بحقهم أو سلحهم ليدافعوا عن أنفسهم؟ هنا يصبح استضافة صحفيٍّ إسرائيلي مجرد تحصيل حاصلٍ، تحديداً أن الانفصاليين ومع تضخم الأنا لديهم أو كما يقال شعبياً «كبرت الخسة برأسهم» فأوجدوا مبرراتٍ كثيرة لهذا التصرف، منها مثلاً أن أغلبية الدول العربية تمتلك علاقات مع «إسرائيل» فلماذا ممنوع الأمر عليهم؟ أو إنهم دعاة سلامٍ مع شعوب المنطقة وكأن العربي السوري الذي يرفع شعار «الموت لإسرائيل» هو داعية إجرام وليس مدافعاً عن حقوقٍ تم اغتصابها؟
تبريرات يطلقونها لكونهم يتصرفون على طريقة من يعيش وهم ما هو أبعد من مجرد «حكمٍ ذاتي» أو «إدارة ذاتية»، لدرجةٍ تجعلنا نتساءل، عن أي «قضيةٍ كردية» جاء الصحفي الإسرائيلي لينجز تقريره؟ هل هي تلك التي ورثها الكرد عن زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان الشهير بين مناصريه بلقب «آبو»، أم الأكاذيب التي يسوقها من يتاجر بتلك القضية على طريقة «الوطن القومي لليهود» للوصول نحو حلم «إسرائيل الشمال»؟
لكي نجيب عن هذا السؤال لا بد أولاً من العودة إلى ما يقرب من العقدين من الزمن عندما تم اعتقال أوجلان، لنعيد تذكير من يمتلكون ذاكرة السمك أنه عندما تم اعتقاله فلأنه ببساطةٍ مواطنٌ تركي وليس سورياً، أي إنه كان يناضل من أجل ما يسمونه «حقوق الشعب الكردي» في تركيا وليس في سورية.
من ناحيةٍ ثانية فإنه وعند اعتقاله فإن أوساطاً كردية أكدت تورط «إسرائيل» بمساعدة المخابرات التركية في تسليمه إليها، بل إن الاحتجاجات الكردية في العديد من العواصم الأوربية كانت من أحد أهدافها هي السفارات الإسرائيلية هناك، لدرجةٍ اضطر فيها الكيان الصهيوني يومها لإغلاق هذه السفارات مؤقتاً حتى يتم امتصاص الصدمة لا أكثر حتى أميركا ذات نفسها التي يحالفونها اليوم كانت قد رحبت باعتقال من سمته «الإرهابي الكبير».
ختاماً فإن من يدّعون عملياً أنهم يمثلون النهج الأوجلاني ويسارعون إلى رفع صوره في كلّ منطقةٍ يستلمونها من داعش، بدوا وكأنهم يغالطون أنفسهم عندما يتحدثون عن السلام مع من اعتقل أباهم الروحي، لكن الأسوأ أنهم يبدون بقمة الغباء عندما يتركون مصيرهم يقاد من جبال قنديل في العراق، على حين إرهابيو تلك الجبال ذات أنفسهم يختبئون كالفئران في جحورهم بذريعة التهدئة أو الهدنة مع تركيا «العدالة والتنمية».
ببساطة لا نعلم إن كان في تلك العصابات من يقرأ، أو إن أحداً قرأ عليهم يوماً ما قاله ابن خلدون إن الدول تبدأ بالتفكك من الأطراف فقرروا ببساطةٍ أن يكونوا هم الأطراف، وبتوصيفٍ أدق ظنوا أنفسهم يستطيعون الانتقال من لعب دور الضبع الذي يقتات من فتات الطرائد التي تتركها الأسود، إلى دور الأسود ذات نفسها مرتكزين لفرضية أن التناقضات الدولية تصب في مصلحتهم للذهاب لما هو أبعد من موضوع «الحكم الذاتي»، تناقضاتٌ نوجزها بالتالي:
أولاً: إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب نيته الاحتفاظ بقواتٍ أميركية في سورية. هذا الإعلان كان بمنزلة ترياق حياةٍ لتلك العصابات الانفصالية التي كانت تستجدي الدول الأوربية للبقاء، لأنها تدرك أن هذه اللحظة التاريخية لن تتكرر في سياق سلب أراضي الغير لإقامة الدولة المزعومة. البقاء الأميركي طويل الأمد يبدو الترويج له جارياً على قدمٍ وساق، إن كان لجهة إعلان المبعوث الأميركي ويليام روبوك بعد مسرحية «انتهاء دولة الخلافة» أن التنظيم لا يزال يشكل خطراً على السكان، أو عبر تغييب قيادات التنظيم وعدم ادعاء مقتلها للاستفادة منها عبر رسائلها الصوتية التي تهدّد هنا وهناك على طريقة ظواهري تنظيم القاعدة، كان آخرها ما يقال إنها رسالة صوتية للإرهابي أبو الحسن المهاجر الناطق الرسمي باسم داعش الذي يتوعد فيها الأميركيين وميليشيا «قسد» وإيران وتركيا والأهم إنه يطمئن «جموع المؤمنين» بأن الخليفة البغدادي في أمان!
ثانياً: الحرب الاقتصادية على سورية. يدرك حلف الحرب على سورية أهمية تلك المناطق التي تسيطر عليها ميليشيا «قسد» لأنها تعتبر خزاناً حيوياً للمواد الأولية الأساسية في دوران عجلة الاقتصاد السوري كالنفط والقطن والقمح، بل هناك من يذهب أبعد من ذلك للقول إن خيرات هذه المناطق هي التي ساهمت بنجاح الرئيس الراحل حافظ الأسد بتطبيق شعار «الاعتماد على الذات» خلال فترة حصار الثمانينيات، واليوم تبدو تلك الميليشيا مطمئنة لحاجة الأميركي إليها لاستكمال الحرب الاقتصادية على الدولة السورية.
ثالثاً: العقدة التركية. يعلم الأميركي قبل غيره أن العقدة التركية بيده وحده مهما ادعت أطرافاً ثانية أنها باتت حليفة أو صديقة للتركي لكن في النهاية فالقرار التركي يخرج وفق ما تتطلبه مصلحة العلاقة مع البيت الأبيض، ولا يخرج وفق ما تتطلبه مصلحة العلاقة بطهران أو موسكو، من هذا المنطلق نجح التركي في كسب الوقت والمماطلة بتنفيذ اتفاق إدلب، وخوض حربٍ إعلامية عن عدم السماح لإرهابيي الـ«بي كي كي» بالبقاء والسيطرة على الحدود الشمالية لسورية، هنا تمكنت قوى الضغط الأميركي من إعادة ترامب إلى جادة الصواب وفق مفهموها بعدم الانسحاب الكامل من سورية، بل إنه وفي الوقت الذي كان فيه وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو قبل أيام وبحضور وزير الخارجية الروسي سيرغي لافرووف يبث أكاذيب حول البدء بتنفيذ اتفاق سوتشي، كان الأميركي يرفع العبء عنه بالقول صراحةً إنه لن ينسحب من سورية إذا ما استعادت ما يسميها القوات الحكومية السيطرة على إدلب، فماذا ينتظرنا؟
ستنتهي اليوم عملياً إحدى أهم الذرائع التي كان يماطل بها النظام التركي لتنفيذ اتفاق إدلب وهي الإنتخابات المحلية، لكن في الوقت ذاته وفي ظل ضعف المعارضة التركية أو حتى إن قلنا عدم وضوحها، فلا يبدو أن هناك متغيراتٍ منتظرة، تحديداً أن أردوغان يداعب بمكرٍ عواطف المتطرفين مذهبياً وقومياً، أما أكراد تركيا فهم يدركون أن معركتهم مع أردوغان خاسرة لأنه سيكسب اليمين المتطرف، لذلك سيكون الجهد متركزاً على سورية وبمعنى آخر: هم أمام لحظة مفصلية، ويلعبون على طريقة «السولد» فإما أن يربحوا كل شيء أو يخسروا كل شيء ولن يكون هناك حل وسط، ومن يعتقد أن ما يسعون إليه هو حكم ذاتي أو إدارة ذاتية فهو واهم، ماذا لو ذهبنا أبعد من ذلك؟ ماذا لو لاعبنا الروس والسوريين بسلاح عودة «القرم» إلى روسيا؟
الفرضية قائمة، وتحييد الأتراك أمرٌ بسيط، ألا يتمتع النظام التركي بأفضل العلاقات مع كردستان العراق؟ ألا يمكن ببساطة نشر قوات أميركية على الحدود بين سورية وتركيا، والأهم من كل ذلك أن الانفصاليين قد يضحون بعصاباتهم المسلحة كرمى لعيني الدولة المزعومة، وعليه نبدو اليوم أمام تحولٍ خطر قد تبدو الجولان معركته التمهيدية لا أكثر، فهل هي مصادفة أساساً أن تتم عملية استضافة الصحفي الإسرائيلي بشكلٍ متزامنٍ مع إعلان ترامب الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل؟
لا مصادفات في السياسة، دعوا الحديث عن المصادفات ودعوا الحديث عن طمأنات من هذا الحليف أو ذاك، أو حتى طمأنات أولئك الذين يظنون أنفسهم يمثلون «الشعب الكردي» وقلبهم على سورية الوطن وأزعجهم يوماً مصطلح «إسرائيل الشمال»، فأحفاد أوجلان باتوا كأبناء التاجر الغني الذي كان يكرر لأولاده عبارة: «لا أدري ماذا سيحلّ بكم من بعدي»؟ فكانوا يرددون في قرارة أنفسهم طمعاً بوراثته: «اذهب إلى الجحيم، ولا تقلق»، لكن سيأتي اليوم الذي يتذكرون فيه أن الجحيم.. كما بدعة وطنهم.. حيث ينهزمون.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن