قضايا وآراء

صفقة القرن بين الحصار والسلام الاقتصادي

| محمد نادر العمري

رغم تراجع القدرة التفوقية العسكرية للولايات المتحدة الأميركية كأداة لتحقيق أجنداتها تجاه الأزمات والملفات الدولية، إلا أن الواقع السياسي يقتضي أن نعترف بأن أميركا مازالت تمتلك قدراً كبيراً من أدوات التأثير السياسية المختلفة لاستهداف خصومها أو لعرقلة أي حل لا يخدم مصالح هيمنتها في الساحة الدولية، ويعتبر الاقتصاد أحد أبرز هذه الأدوات سواء في استخدامه لفرض الحصار على الدول ضمن الحروب الناعمة، أو كعامل جاذب ومستقطب للفاعلين الآخرين بدافع انخراطهم بفضاء مشاريعها الجيوسياسية.
هذا التوظيف السياسي للاقتصاد يظهر بشكل واضح وجلي في هذه المرحلة من احتدام الصراعات وتوازن القوى الذي بدأت تشهده ساحات الاشتباك نتيجة العودة التدريجية للدب الروسي كقطب دولي منافس للولايات المتحدة الأميركية إلى جانب قوى صاعدة تمتلك أيضاً بعضاً من موارد القوى المتفاوتة، وما يحصل اليوم في منطقة الشرق الأوسط من توظيف أميركي للاقتصاد بوجهيه معاً هو خير دليل على ذلك، لتحقيق توجهات واشنطن الرامية إلى: 1- محاولة استنزاف واستهداف محور المقاومة عبر فرض الحصار عليه من خلال جملة إجراءات تتراوح بين منع إيران من تصدير نفطها للعودة إلى طاولة المفاوضات والمباحثات وإدخال تعديلات على الاتفاق النووي لتقليم أظافر طهران والحد من نفوذها وتجريدها من قوتها الصاروخية، وشل الحركة الاقتصادية في سورية وحرمان شعبها من موارد الطاقة وعرقلة إطلاق مشروع إعادة الأعمار لدفع دمشق نحو تقديم تنازلات سياسية عجزت واشنطن عن تحقيقها عسكرياً أو بهدف تغيير المزاج الشعبي المؤيد للدولة السورية ومحاولة تحقيق خرق في مشهد الاستحقاقات الدستورية في عام 2021 وفرض أمر واقع عبر نشر الفوضى الاجتماعية الناجمة عن آثار هذا الحصار، بالتزامن مع المساعي الأميركية لتطويق حزب الله وإدخال لبنان مغبة الحرب الأهلية مجدداً.
2- إيجاد الظروف الموضوعية وخلق المناخ السياسي الملائم لتطبيق ما تبقى من بنود صفقة القرن، من خلال التوصل لسلام اقتصادي بين دول المنطقة وبخاصة الخليجية مع الكيان الإسرائيلي ينهي معالم الصراع ويؤمن الفضاء الأمني لتل أبيب، وهذا ما جاهر به وزير الخارجية العماني موسى بن علوي في هامش مشاركته في المنتدى الاقتصادي العالمي بالبحر الميت بالأردن منذ أيام ودون خجل «بتبديد مخاوف تل أبيب الأمنية في المنطقة لتضمن مستقبلها». وهذا التصريح يدفعني بالتذكير بحدثين أو نقطتين في غاية الأهمية ضمن إستراتيجية اللجوء للاقتصاد بعد خيبة استخدام القوة العسكرية:
الحدث الأول بعد تغير قواعد الاشتباك العسكرية لمصلحة محور المقاومة وامتلاكه قدرات ردعية بعد فشل عدوان 2006 من تحقيق أهدافه في خلق شرق أوسط جديد، سربت صحيفة هآرتس جزءاً من تقرير، وصفته بالسري حينها، للإستراتيجية التي اعتمدتها الحكومة المصغرة، تضمن التقرير «رؤية حكومة الاحتلال ورغبتها بالتوجه خلال العقدين اللاحقين من تاريخه، لتعزيز قدرتها وتفوقها في منطقة الشرق الأوسط عبر المجال الاقتصادي وبصورة أخص من خلال إدارة ملف الطاقة «التحكم بمصادره وتوزيعه وتوظيفه»، وأضاف التقرير: إن لذلك في حال تحققه أثراً كبيراً في الوصول لعلاقة سلام مع الدول العربية تؤمن لإسرائيل البيئة الأمنية والمستقرة». وبدأت بوادر هذه الإستراتيجية تظهر مع شراء الغاز المصري بنصف السعر الذي تبيعه الحكومة المصرية لشعبها، وتوسيع ميناء حيفا وطرح مشروع خط الربط للسكك الحديدية مع دول الخليج، ووضع القيود أمام الاستثمار اللبناني لمصادرة الطاقة في المتوسط، وتوطيد العلاقة مع قبرص واليونان لمد خط غاز من المتوسط لأوروبا ونقل الغاز الخليجي أيضاً من خلاله لكسر شوكة الروسي وتقويض نفوذه تجاه أوروبا.
الحدث الثاني هو التوجه الأميركي لتطبيق صفقة القرن بالاستناد إلى عاملين: الأول تحسين المستوى المعيشي للشعب الفلسطيني بهدف الضغط عليه للتخلي عن طموحاته في استعادة أرضه وحق العودة، على أن تتحمل دول الخليج ذلك.
والثاني إحداث تعديل جزئي على خارطة «سايكس بيكو» لعام 1916، يتضمن تقديم الأردن تنازلات جغرافية للسلطة الفلسطينية على أن تقوم السعودية بتعويض الأولى جزءاً من أراضيها بعد تعويضها مسبقاً بجزيرتي تيران والصنافير من مصر وتحسين الواقع الاقتصادي للدول الثلاث عبر مشروع «نيروم» الذي طرحه محمد بن سلمان ومنح الأردن 47 مليار دولار، وهذا ما أكدته صحيفة «واشنطن بوست» وموقع «i24» الإسرائيلي منتصف هذا الشهر.
لخدمة مشروع «السلام الاقتصادي»، لجأت واشنطن إلى سياسة «الحصار الاقتصادي» على محور المقاومة بصورة عامة للقبول بصفقة القرن، وضمن هذا الإطار جاء الاعتراف الأميركي بسيادة الكيان الإسرائيلي على الجولان المحتل ليظهر مدى أهمية الاقتصاد والمصالح المشتركة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
فإلى جانب الأهداف السياسية الداخلية التي يسعى لها كلا الشخصين والمتمثلة بضمان نتائج الانتخابات والتخلص من الضغوط بعد اتهامهما بالخيانة، فإن الجولان شكل شرطاً مسبقا لنتنياهو للقبول بصفقة القرن ويمثل مصدراً مهماً ومخزوناً كبيراً من النفط «أثار لعاب» ترامب عندما علم أن مخزونه النفطي يسد حاجة الكيان الإسرائيلي أربعة قرون وفق تقدير يوفيال بارتوف، كبير الجيولوجيين الإسرائيليين في شركة «آفيك» التابعة لشركة «جيني» الأميركية ويملكها خمسة أشخاص أبرزهم نائب الرئيس الأمبركي السابق ديك تشيني وصهر ترامب وأحد أهم عرابي صفقة القرن جاريد كوشنير.
نشاط المقاومة في الجولان والمخاوف الأمنية الإسرائيلية هي مجرد ذريعة تتخذها تل أبيب للاستمرار في احتلال الجولان وفق ما توصل له رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي السابق غيور إيلات في بحثه الذي قدمه لمركز أورشليم 2007، نظراً لتطور التكنولوجية وحرب الصواريخ، فالاعتراف بسيادة حكومة الاحتلال على الجولان جزء من إحكام طوق الحصار وفرض أمر واقع على سورية وهو جزء من العبث بالجغرافية السورية ويماثله بذات الخطورة الإقرار بشراكة ميليشيات «قوات سورية الديمقراطية – قسد» مع الولايات المتحدة الأميركية وتحالفها المزعوم وكلاهما وجهان لعملة واحدة، وعلى واشنطن أن تدرك أن كثرة الضغط سيولد الانفجار حتماً، ولاسيما أن سورية وإيران لن تقبلا أن يموت أكثر من 100 مليون من مواطنيهما ولا أن يصاب نشاطهم الاقتصادي بالشلل، وليسا في وارد تقديم تنازلات بعد حجم كبير من التضحيات. فمعركة الحصار كما وصفها الرئيس بشار الأسد هي معركة بحد ذاتها، هي معركة كر وفر، فهل يلجأ محور المقاومة خلال شهر رمضان المبارك لعنصر المفاجأة التي يحاول الروسي احتواءها ويحول أيار لشهر النكبة الإسرائيلية؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن